المعتدلون

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 13-12-2020 م

لماذا قتل محمد بن سلمان الشهيد جمال خاشقجي رحمه الله؟

الإجابة التي يرددها غالبية المتحدثين في هذا الشأن.. لأنه – بشكل من الأشكال – معارض لتوجهات نظام الحكم، أو للنموذج الذي يقدمه بن سلمان، أو للنموذج الذي يحاول أن يلفقه بالتعاون مع بن زايد والعصابة (إياها) من الصهاينة العرب.

والحقيقة أن هذه الإجابة – برغم ما فيها من كلام منطقي سليم – ليست دقيقة، وليس فيها السبب الحقيقي لتصفية جمال خاشقجي.

في رأيي أن السبب الحقيقي لتصفية جمال – وكل جمال – هو اعتداله.. نحن أمام أنظمة عربية تخاف من المعارضين المعتدلين، ويسعدها جدا وجود التيارات المتطرفة، والتنظيمات المسلحة.. أما هؤلاء الذين يقاومون استبدادهم بالكلمة، ويكتسبون مصداقية لدى الناس، ويتابعهم الملايين بسبب عقلانيتهم واعتدالهم.. فتراهم حكوماتنا العربية أكبر خطر عليهم.. إنهم معبودوا الجماهير، ومفجروا الثورات، وقدوات الشباب.. وهذا لعمري لأمر خطير خطير في نظرهم.

* * *

في الماضي.. كانت الأنظمة لا تبالي بهؤلاء المعتدلين، كانت تحتقرهم..

هؤلاء لا يملكون موارد تذكر، ولا يملكون وسائل تواصل مع الناس، وإسقاطهم في أي انتخابات أمر أبسط من بسيط.. فهم مجموعة من المثقفين المعزولين في أبراجهم العاجية، لا تأثير لهم إلا في نخب لا يمكن أن تتحرك بشكل يؤدي إلى مشكلة، فلماذا يحمل النظام هم التعامل معهم !

في عصر مبارك على سبيل المثال، لم يكن من أحد يبالي بهؤلاء الواقفين على سلم نقابة الصحفيين، يهتفون بسقوط مبارك (الأب، والابن)، وكانت الإجراءات التي تتخذ ضدهم لا تقارن بما أصبحوا يواجهونه بعد ذلك بسنوات.

لقد فوجئت الأنظمة العربية أن تأثير هؤلاء “المعتدلين” أكبر مما تتخيل، وتبيّن أنهم قد سبقوا الدولة بعدة خطوات في استثمار وسائل التواصل الحديثة، وهو ما كفل لهم توجيه ضربة قاضية لرأس النظام في زمن قياسي (في عدة دول).

هذه التجربة ما زالت حتى اليوم هي المتحكم الأكبر في تصرفات الأنظمة العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.. لقد أصبحوا مرعوبين من هؤلاء المعارضين المعتدلين، ويرون فيهم الخطر الأكبر.

* * *

ولكن لماذا ترتعب الأنظمة العربية من المعتدلين أكثر من المتطرفين ودعاة العنف؟

لعدة أسباب، أهمها أن حركات التطرف والعنف بطبيعتها لا تستطيع استقطاب جماهر غفيرة، بل تكون مبنية على أساس من السرية، ومحدودية العدد.

الحركات المسلحة لن ينضم لها سوى من يستطيع حمل السلاح، ويؤمن بجدوى هذا الطريق الوعر.

أما الحركات التي تدعو إلى التغيير السياسي السلمي.. فهي قائمة بطبيعتها على استقطاب الجماهير الغفيرة، من كافة الأعمار والطبقات والأجناس، والانضمام لها مفتوح على مصراعيه.

التنظيمات المسلحة لا تريد الجماهير، بينما المعتدلون لا يريدون إلا الجماهير.

التنظيمات المسلحة ترغب في الحكم، وترى أن الطريق للحكم هو السلاح، ومن يصل للحكم بالسلاح لن يبالي بالناس، فهو ليس مدينا لهم بشيء.

أما المعتدلون فهم لا يرغبون في الحكم كغاية، بل يرغبون فيه كوسيلة، وكثير منهم يرفض المناصب، ويفضل أن يكون في مركز قوة يؤثر على متخذ القرار.

المعتدلون يرغبون في أن تتاح للشعوب فرصة اختيار الحاكم دون تهديد السلاح، أيا كان حامل ذاك السلاح.

ومن أهم أسباب خوف الأنظمة العربية من المعارضين المعتدلين هو أنهم يلعبون في ملعب لا تتقنه السلطة، ملعب الأفكار..

المعتدلون يواجهون هراء السلطة بنور العلم، يملكون عصا موسى، والسلطات العربية لا تملك سوى بعض عصي سحرة فرعون..

أما دعاة العنف فهم يلعبون في الملعب الذي تتفوق فيه الأنظمة تفوقا كاملا، فهي بطبيعتها تتقن لعبة العنف، ولا ضوابط أخلاقية لديها في استخدامه، ولا يحاسبها قانون حين تبطش بحامل سلاح يهدد الأمن..

وبالتالي.. من المريح جدا للمستبد أن يكون معارضوه حاملين للكلاشينكوف، لإنه سيطلق عليهم الرصاص بلا رحمة، وبمنتهى الكفاءة، ثم سيُظهر ذلك للمجتمع الدولي كانتصار على الإرهاب، بل سيطلب من المجتمع الدولي ثمن مقاومته لهذا الإرهاب.. ثمنا ماديا ومعنويا.

أما المعارض الذي يحمل القلم.. فهذا شخص مُتعب، مُحيّر، لا تعرف السلطات العربية كيف يمكن أن تتعامل معه، لذلك قتلوا جمال خاشقجي، إذ لم يكن من الممكن أن يرسلوا له فريقا يناظره في أفكاره داخل القنصلية السعودية في اسطنبول.. كان لا بد أن يرسلوا له فريقا لاغتياله.. فهذه صنعتهم.. جمال كان يلاعبهم “شطرنج”، وهم يلعبون المصارعة !

* * *

واجبنا اليوم كمقاومين للاستبداد، أن نحافظ على اعتدالنا، فهو الورقة الرابحة التي تجمع حولنا جماهير الشعب التي تتوق لتغيير أوطانها.

ولكن.. هناك من يخلط بين “الاعتدال” وبين أمور أخرى ليست من الاعتدال في شيء !

الاعتدال لا يعني أن نركن للظالمين، أو أن نقبل بالاستبداد، أو أن نتهم كل من يخالفنا بالتطرف، أو أن نقبل بأجندات أجنبية تنال من استقلالنا الوطني.. هذه الأشياء يروّج لها البعض لتشويه الاعتدال، وتجميل التطرف.

معنى أن تكون معتدلا هو أن تدعو لإسقاط تلك الأنظمة العميلة سلما لا عنفا، وأن تدعو لمنح الشعوب – كل الشعوب – حق اختيار الحاكم، ومراقبته، ومعاقبته.

معنى أن تكون معتدلا هو أن تقاوم الانقلابات العسكرية في كل مكان في العالم، وأن ترى في دولة القانون حلا لكل مشاكل الأمم، تلك الدولة المدنية التي يخضع لها الجميع، حتى هؤلاء الذين يحملون السلاح من الجيش والشرطة.

معنى أن تكون معتدلا هو أن ترفض كل أشكال الاستبداد، مهما تقنعت بأردية من الوطنية أو الدين أو الضرورات الأمنية أو غيرها..

* * *

من المهم في هذا المقام أن نحذر من أن ظاهرة العنف ستعود، فعشرات الآلاف من المعتقلين الشباب في كثير من الدول العربية اليوم يتعرضون لكل ما يمكن أن يحولهم من “معتدلين” إلى شيء آخر.

ومن المهم أن نعلم أن الحوار مع هؤلاء الشباب هو السبيل الوحيد للحفاظ على أوطاننا، وأن دور المعتدلين هو فهم الظاهرة، واستشراف مستقبل مواجهتها، ومقاومة الأنظمة التي تصنعها.

سقوط أنظمة الاستبداد قريب، وحينها لا بد من مواجهة كل تلك الأفكار، ولا بد من إنصاف المظلومين ضمن برنامج عدالة انتقالية واضح، وهذا بلا شك دور المعتدلين، واللجوء للحلول الأمنية دون عقل واع لن يزيد الأزمة إلا تفاقما.

* * *

تعليق على تطبيع جديد:

قررت الدولة المغربية ركوب قطار التطبيع (أعني بشكل علني بعد عشرات السنين من الركوب خفية)، أما الشعب المغربي فغالبيته العظمى ترى في التطبيع رجسا من عمل الشيطان، حتى لو ارتكبه أمير مؤمنين.

مهما فعلتم يا حكام العرب.. ستظل الشعوب مع فلسطين.. وضد إسرائيل.. ضدكم !

* * *

كلمة حزينة أخيرة:

رحم الله المهندس أيمن عبدالغني.. كان نموذجا للاعتدال، وللحوار العاقل مع الشباب، وللسياسي الذي تستطيع أن تثق فيه رغم خلافك معه .. وما أندر ذلك اليوم..

ربط المقال 

المقال السابق

في مديح الاستبداد.!

المقال التالي

المعتدلون.. دافعو الجزية.!

منشورات ذات صلة
Total
0
Share