الذين رضوا بالتزوير

المقال منشور في موقع مصر العربية بتاريخ 8-1-2014 م

قضوا أعمارهم يقاومون نظامًا مستبدًا غاشمًا، وصفوه بكل صفات الذم، بعضهم بدأ مقاومته لهذا النظام منذ خمسينيات القرن الماضي، فيهم من ذاق غياهب السجون من أجل إسقاط هذا النظام، ومنهم من بذل كل غال ونفيس من أجل أن يتحرر المصريون منه، وكانت عقدة العقد ومشكلة المشاكل بينهم وبين هذا النظام تزوير الانتخابات والاستفتاءات.هؤلاء الثوار، الرموز الوطنية، الأحرار، المناضلون، سمهم ما شئت، صِفْهُمْ بكل صفات الكمال والجمال والجلال، قاوموا عشرات السنين من أجل أن يصبح من حق المصريين أن يقفوا أمام صندوق شفاف نزيه، له كل ضمانات السلامة، وعليه ألف عين وعين (من مصر والخارج) لكي لا تُزَوَّر إرادة الناس.
 
هؤلاء \”العظماء\”.. رضوا بتزوير الاستفتاء على الدستور القادم! خسروا أنفسهم، وباعوا تاريخهم، مقابل ماذا؟ مقابل إسقاط فصيل سياسي اختلفوا معه!  لقد قبلت ضمائرهم أن تُحْرَمَ الأمةُ من مكتسبات أفنوا أعمارهم لكي تتحقق، واليوم صمتوا جميعًا أمام تزوير الاستفتاء.  كنت في مناظرة مع أحدهم، وقلت إن الاستفتاء سيزور، وقلت متهكمًا: \”تيسيرًا على المواطنين سيسمح لأي أحد بالتصويت في أي مكان\”! فهاجت القاعة وماجت، وهب في وجهي إعصار من مناصري ما يسمونه \”ثورة ثلاثين يونيو\”، وصرخ بعضهم في وجهي \”أنت تشوه ثورة يونيو\”، وفي النهاية ها هو مرسوم رئاسي رسمي يصدر بهذا العبث، وهو مرسوم لا معنى له سوى النية المبيتة لتزوير الاستفتاء مع سبق الإصرار والترصد، وهو تدخل سافر من السلطة التنفيذية في عمل اللجنة العليا للانتخابات.
 
في المناظرة نفسها، قال المتحدث عضو لجنة الخمسين: \”إذا لم تكن هناك رقابة دولية، فمعنى ذلك أن الاستفتاء مزور\”!وها هي الحقيقة أمامنا، لا رقابة دولية على الاستفتاء، بل إن الرقابة المحلية تكاد تكون غائبة، بل إن القضاة أنفسهم قد تمت غربلتهم، فقد ثبت أن أي قاض لا يوافق على الاتجاهات السياسية للنظام، قد تم استبعاده من الإشراف، وبعضهم قد تم استبعاده من سلك القضاء أصلاً، فما معنى أن تقيم محاكم تفتيش للقضاة قبل الاستفتاء، بحيث تقصي المخالفين وتبقي الموالي؟ وما معنى أن يقام استفتاء على دستور يدعي أنه يرعى الحريات في كل هذا الجو من الإرهاب؟!  لقد ألغت سلطة الانقلاب الفرز في اللجان الفرعية، وستبيت الصناديق في أحضان من أدمن التزوير ستين عامًا متواصلة، ثم بعد ذلك يقولون لنا إننا أمام دستور لم تر مصر مثله، وإن كل من يشكك في النتيجة عدو للوطن، ويساند في هدم الدولة، وممول من الخارج، وخلية نائمة من خلايا البعبع الأكبر.
 
مشكلة هذا الاستفتاء ليست في أن يمر بنعم، بل المشكلة أن من ينظمه لا يستطيع أن يعترف بأن معه جزءًا من الشعب، وبأن هناك جزءًا كبيرًا من الشعب ضده، فقد صدع رؤوسنا ورؤوس العالم كله بثورته التي أذهلت الكواكب والمجرات، والتي أجمع عليها المصريون، ونزلوا في الشوارع تأييدًا بعشرات الملايين!  إنه مطالب اليوم بأن يحبك الكذبة، ولا بد أن يصوت في الصندوق عشرات الملايين، وإلا سينكشف الأمر برمته، ولا بد أن تكون نسبة التصويت بالموافقة نسبة خيالية، وإلا فمعنى ذلك أن شرعية الدستور المعطل ما زالت قائمة، وبالتالي يصبح وضع نظام الانقلاب وكأنه قد هدم بنيانًا من عشرة طوابق ليقيم بنيانًا من خمسة طوابق، بعد أن قتل ما قتل، وحرق ما حرق، ونهب ما نهب، لكل ذلك لا حل إلا بتزوير واسع النطاق، لم تر مصر له مثيلاً في أوسخ العهود.
 
ليس غريبًا على نظام استبدادي أمني أن يفعل ذلك، ولكن الغريب والمؤسف والمخجل أن يتورط في تأييد هذه الإجراءات أناس أفنوا أعمارهم في مقاومة التزوير، وتراهم اليوم يغمضون أعينهم عن كل الضمانات المهدرة في هذا الاستفتاء.  إنه استفتاء بلا ضمانات، إنه استفتاء مباركي بامتياز!  تزوير من أجل الاستقرار، تزوير من أجل الحفاظ على الدولة، تزوير من أجل محاربة الإرهاب!  استفتاء تسلم الأيادي، يروج له ثوار، يقفون يدًا بيد مع أحمد فتحي سرور، ومفيد شهاب، وما زالوا حتى اليوم يظنون أن موقعهم من التاريخ، ما زال في خانة الشرفاء.
 
يا أيها الثوار الذين تعتبرون تزوير إرادة الأمة أمرًا قابلاً للخلاف.. ما الفارق بينكم وبين مبارك؟

للتعليق على المقال أو الاستماع إليه في موقع مصر العربية 

المقال السابق

ما بعد الانقلاب...!

المقال التالي

في ذكرى وثيقة الأزهر لنبذ العنف

منشورات ذات صلة
Total
0
Share