تعارض مصالح

المقال مشور بموقع عربي 21 بتاريخ 28 فبراير 2021 م

“هذا النصّ جزء من كتاب أتمنى أن يصدر قريبا بعنوان (كتاب السفر)، وقد كُتِبَتْ هذه الخاطرة في اسطنبول نهاية يناير 2018”

برد المنافي يذكرك بدفء الوطن !

في مثل هذا الوقت من كل عام لي طقوسي في منزلي.. “بيت القصيد”.. أجلس أمام المدفأة، أشعل الحطب الذي جهزته من الربيع، حمّصته في شمس صيف القاهرة حتى أستمتع بإشعاله في الشتاء.

بنيت هذا البيت وأنا أعلم جيدا أن هذه الجلسة العربية البدوية ستكون للقراءة والكتابة في الشتاء، لها إطلالة على الحديقة، لا راديو فيها ولا تلفاز، إنها زاوية للهواء العليل صيفا، وللدفء شتاء، دفء المعرفة، والتأمل والأسرة.. مع رائحة الحطب.

برد المنافي لا يقيك منه أي نوع من أنواع التدفئة، لا الحطب، ولا الغاز، ولا الكهرباء.. برد لا تجدي معه الثياب.. وما هي الثياب؟ هل تمنح الثياب دفئا؟

علميا الثياب مهمتها أن تمنع تسرب حرارة الجسم منه، فمصدر الحرارة هو جسم الإنسان، والثياب مجرد حائط يحجز حرارة الجسم داخل الجسم.

برد المنافي ينبع من داخلك، فمن أين تحصل على الدفء وأنت دون الناس قلبك مصدر البرد يا أيها المنفي؟!

برد المنافي يغلف قلبك بالصقيع، فترى فيه إن رأيت أمورا كانت أمام عينيك، ولكن بينك وبينها حُجُبٌ وحُجُبٌ.

الشوارع، والفصول، والناس، والشجر، والطعام، والكتب، والمقاهي.. كل شيء يتغير، يكتسب دلالات وألوانا جديدة، وأنت لا تدري ما الذي يحدث لك، ثم تكتشف مع الوقت أنك أصبحت ترتدي نظارة المنفى.

وهي نظارة تغيّر الألوان، تسوّد الواقع في أغلب الأحيان، وهي أحيانا مكبرة، وأحيانا مصغرة.

فإذا أقبلت لحظة فرح تصبح نظارة ذات عدسات قادرة على تصغير الفيل حتى تراه بحجم أنثى البرغوث !

وإذا أقبلت لحظة حزن تصبح نظارة معظمة، تحول الحبة إلى مجموعة من القباب المركبة، مع قدرة على تمديد لحظة الحزن إلى ساعات، وأيام، وأسابيع، وشهور.

نظارة المنفى تخترع حوائط بلا لون، تصطدم بها دون أن تراها، كم شُجَّتْ رؤوسُ المنفيين من جدران لا تُرى !

*       *       *

أقبل يناير.. وما زلت متفائلا بالعام الجديد 2018م، أتراه يكون عام العودة؟

ها نحن في الخامس والعشرين من يناير، الذكرى السابعة لثورتنا المجيدة، وحالة المعارضين للانقلاب في أسفل السافلين !

مرَّ عليّ اليوم ثقيلا كالفيل، أويت إلى فراشي مبكرا محاولا النوم، نمت واستيقظت بعد منتصف الليل بقليل بصداع يكاد يفلق رأسي، وسهرت بأرقي وصداعي، أقرأ، وأكتب، وأعزف، أتذكر الميدان الذي كسرنا فيه حوائط السجن الذي شُيِّدَتْ أسواره بجماجم الشعب على مدار ستين عاما من الاستبداد.

الخوف حائط، بل حوائط، تكسرها الثورات، تفتتها كفِلّين، ولكي تُبنى من جديد لا بد من نهر من الدماء، وسيل من المظالم، وطوابير من الأسرى (المعتقلين).

لا بد لبناء حائط خوف جديد من ظلم جديد، ظلم أكبر !

لا يكفي سجن المعارضين خلف تلك الحوائط، بل لا بد من سجن آلاف الأبرياء والمحايدين، بل لا بد من سجن المؤيدين كذلك.. الظلم للجميع !

لا بد أن تصل الرسالة للمجتمع بأن هناك موتورا في السلطة لا يتورع عن قتل وسجن الأبرياء الذين لم يقتربوا من عالم السياسة.. فما بالك بالذين يتجرأون ويقتحمون.. هذا ما تفعله السلطة الآن في مصر.

أختي الحبيبة علا وزوجها حسام في السجن منذ أكثر من مائتي يوم، أختي المسكينة المظلومة ما زالت في زنزانة انفرادية، في برد يناير، هي مثلي تذوق برد المنافي برغم وجودها في قلب القاهرة.

تتفنن الأوطان في النفي، حوائط السجن منفى، وحوائط المنفى سجن، وكل من في السجن يذوق النفي وبرده رغم وجوده في وطنه، وكل من في المنفى يذوق سجنا ممهورا بختم الوطن.

هل جلست مع علا أمام المدفأة في بيت القصيد من قبل؟ لا أذكر !

يجمعنا برد المنفى، كل خلف حائط منفاه الخاص، أمنية من أمنياتي حين أعود إلى دفء

الوطن أن أشعل هذه المدفأة، وأن أجلس أمامها.. مع علا وحسام.. لنهدم حائط المنفى، ونذيب صقيع المنفى.. بدفء الحب.. حب الأسرة والوطن.

*       *       *

حوائط المنفى صنعت من الثلج، لا تمنح الدفء أبدا، أعيش هنا في اسطنبول في شقة دافئة، بلغت درجة الحرارة صفرا ولم أضطر لإشعال أجهزة التدفئة، لا بد أنها ستكون صعبة في الصيف، ولكن رغم دفئها ما زال يعذبني برد المنفى.

التقيت اليوم بمنفيٍّ آخر.. الخطاط السوري المبدع الفنان محمد عماد محّوك، تبادلنا أحاديث الفن والشعر والسياسة.. والمنفى !

ثم فاجأني بهدية غالية، لوحة من إبداعه رائعة، بخط المُحقّق، لأبيات ابن الفارض :

تـــِهْ دَلاَلاً فأَنْــتَ أهْــــلٌ لِذَاكـــا               وتحَكّــمْ فالحُسْـنُ قــدْ أعطاكا

وبِمَا شِئْـتَ في هَــواكَ اختَبِرْنِي              فاختياري ما كان فيِه رِضَاكَا

ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاض               فَعَلَـــيَّ الجَمَــــالُ قــــدْ وَلاّكَا

فعلى كُـــلّ حالَـــــةٍ أنـــتَ مِنّي               بـيَ أَوْلـى إذ لـمْ أَكُـنْ لولالكا

لماذا اختار هذا الرجل ذو الحس المرهف هذه الأبيات وهذه اللوحة دون غيرها ليهدينيها؟

اللوحة جاهزة في بروازها، تحتاج إلى مسمار في الحائط.. لا أكثر !

حدقت في اللوحة ومبدعها يجلس أمامي، رائحة القهوة تلطف الجو، تماسكت، بدأت أتلو عليه أبيات القصيدة التي ما زلت أحفظ معظمها، هذا الشاعر المصري ذو الأصل الحموي ما زالت أشعاره تتشبث بذاكرتي رغم فعل العمر وأفاعيل الزمن..

دموعي تغلبني.. استأذنت وذهبت إلى الحمام.

ماذا أفعل بهذه اللوحة الرائعة؟ أين أضعها؟

لا حائط عندي !!!

نعم.. بعد كل هذا الحديث اكتشتفت أن حوائط المنفى لا تتحمل اللوحات القيّمة !

هل رأيت من قبل رجلا يعلق لوحة خاصة في غرفة في فندق؟

حوائط المنفى من الثلج، أو من الخرسانة، حوائط يمكن أن تكتب عليها شعارات سياسية، أو أن تنقش عليها خطوطا متجاورة تحسب بها الأيام منذ اعتقالك إلى يوم الإفراج كما يفعل المعتقلون والمسجونون في زنازينهم.

كل هذه الحوائط من حولي.. تحاصرني حوائط المنفى، ولا أجد حائطا أعلق عليه لوحة !

حوائط بلا نوافذ، وإذا فتحت نافذة تراها تطل على الجحيم، ولعل هذا الجحيم هو مسقطٌ رأسيٌ لنار قلبك أنت يا أيها المنفيُّ !

*       *       *

(بينك فلويد) وحائطه المشؤوم !

أدمنت تلك الأغنية – كغالبية جيلي – سنوات، وما زلت أحن إليها من وقت لآخر، لم أكن أتخيل أنني سأواجه هذا الحائط الذي لا باب له ولا شباك.. حائط صادرت منه العساكر أبوابه ونوافذه حتى أنني أكاد أسمع بابا يجهش بالبكاء يريد أن يعود مكانه علّ يدا تمتد إليه فتفتحه وتفرج عمن هم خلف الحائط من قبائل المنفيين..

أكاد أسمع أنين النوافذ المحذوفة من حوائط المنفى وهي تشتاق شعاع شمس يتسرب خلالها لمن هم خلف تلك الحوائط.

هذه حوائط المنفى، بلا أبواب، ولا نوافذ، تجتر فيها أنفاسك وأفكارك أيها المنفيّ، لا نور في المنفى سوى ما ينبع من قلبك.

اليأس أحيانا حل.. ولو يئست (سييأس بعدي الجميع) كما قلت ذات قصيدة.. الأمل يطيل المنفى.. والمنفى كرب مؤقت..

كلما حاولت أن أيأس أرى حوائط المنفى أضاءت، صحيح أنني لا أتمكن من تعليق لوحة عليها، ولكنني أفهم جيدا أن ذلك الوحش المخلوق من الحوائط حين يمضغ الوقت ويبصقه في وجهي يثبت لي أنه وحش مؤقت، مصنوع من حطام الزمن، وأن القلم أقوى من قدرته على فرض اليأس.

جدران هذا المنفى تئن مع كل فكرة تُلوّح بالشمس، تتعذب مع كل خط يرسمه المنفيّ على الجدار وهو يعدّ الأيام، الحائط يدرك اقتراب فنائه، وخلود فكرة الوطن، وحتمية العودة.

أعرف كثيرين بصقوا فكرة الوطن كعلكة ذاب سكرها، لقد انتصرت الجدران عليهم، ولا أدري.. هل أحتقرهم؟ أم أشفق عليهم؟

إنني أؤمن أن انتصاراتنا لم تكن وهما، وأن هزائمنا كانت ضرورة لإحراز نصر أكبر، نصر يحول جدران المنفى إلى حجارة من نور.. سنبني حوائط الوطن بالنور.. والنور لا يحبس الناس.. بل يحررهم !

*       *       *

تعليقات على أحداث هامة:رحم الله المستشار الجليل طارق البشري، فقدت الأمة رجلا لا مثيل له، ومن آلامنا التي هي فوق احتمالنا أن لا نبكي في جنازته، وأن لا نصلي عليه، وأن لا نعزي فيه.. قاتل الله من حرمنا من هذه اللحظات.. “بايدن” لن يغير أنظمة ما قامت ولا استمرت إلا لتخدم بلاده.. سيبتزها، ويستخرج من أوساخها مصالح شعبه.. التغيير قادم.. والأمة ستختار من يقودها للتغيير.. الأمة أعظم من دولتها ومن نخبتها.. مهما بدا العكس.. ومهما تطاولت الدولة والنخب التي تزعم المعارضة على الأمة.

رابط المقال 

المقال السابق
الشاعر عبد الرحمن يوسف

لا فلول ولا إخوان: فكر عبدالرحمن يوسف وبروز تيار بديل في مصر ما بعد حكم مرسي - بدر موسى السيف -  جامعة جورج تاون

المقال التالي

تعارض مصالح

منشورات ذات صلة
Total
0
Share