حج بلا شعائر !

هل يغفر القارئ للكاتب نهاية غير سعيدة لقصة مشوقة؟  هل يغفر القارئ للكاتب نهاية محبطة لقصة تستحق أن تنتهي بأمل كبير لحياة جديدة؟ لا أحب النهايات الكئيبة، وكلما تقدمت في العمر أرى نفسي تحن للنهايات السعيدة، ولا ترتاح للنهايات الحزينة مهما كانت متطلبات الدراما .
خبرتي المحدودة في الحياة غيَّرتْني، فقد تحولت من ذلك الشخص السوداوي المتشائم إلى شخص يحدد رأيه برؤية الواقع من حوله بأكبر قدر ممكن من حصر للتفاصيل، وبناء على ذلك يحكم، وصرت أميل للتفاؤل، بعد أن أثبتت لي الأيام أن المستحيلات ليست أكثر من افتراضات يتخيلها الناس، ومع مرور الوقت تصبح سجنا يحبسون أنفسهم فيه .


قصتي التي سأحكيها لكم اليوم تتلخص في أنني أريد الحج منذ سنوات، ولكن ذلك لم يتيسر لأسباب كثيرة، فقد مررت بسنوات عجاف، لم يكن بإمكاني حينها تدبر تكاليف الحج، كما أن العمل العام خطف سنوات من عمري قصَّرْتُ فيها في حق نفسي وصحتي، وفي حق أسرتي وأحبابي وأصدقائي، وللأسف … قصَّرْتُ حتى في علاقتي مع الله سبحانه وتعالى . صرت مشتاقا للحج، لأسقط الفريضة، ولأبدأ صفحة جديدة من خالقي جل علاه . اعتمرت عدة مرات في شبابي، ولكني لم أؤد فريضة الحج حتى اليوم . لست من الذين \”يحترفون\” الحج والعمرة كل عام كما يفعل كثير من الناس، وأرى ذلك شكلا من أشكال التنطع المنهي عنه شرعا، لذلك حين نويت الحج ظللت عدة سنوات عاجزا عن الحصول على فيزا للحج ! عدد التأشيرات محدود، ومن الواضح أن هناك سوقا سوداء لها قوانينها التي لا يعرفها شخص مثلي (أعني شخصا يحاول أن يضبط سلوكه بحيث لا يخالف القانون) .


وصلت بعد السؤال إلى شركة سياحة كبيرة، مديرها شاب محترم، جلست معه بعد توصية من أشخاص \”مهمين\”، ولهم منزلة عنده، وفي أول جلوسي معه وضحت له أن اسمي وسمعتي لا يتحملان أن أرتكب أي مخالفة للقانون المصري أو القانون السعودي، وأنني أريد حجا سليما من الناحية القانونية . شرحت له هذا الأمر بشكل مباشر صريح، وكررت له الفكرة بعدة أساليب، وبدا لي أنه قد فهم تماما ما أعنيه، أنا شخصية عامة، ولا يصح أن أدعو الناس لاحترام القانون ثم أخالفه، ولا يوجد أي سبب أو مبرر أو استثناء في ذلك، أريد أن ألتزم بالقانون التزاما كاملا . ما حدث أن الرجل لم يتمكن من الحصول على فيزا للحج، وقال لي إن السبب في ذلك هو قلة عدد التأشيرات بسبب تقليص عدد الحجيج نظرا لتجديدات وتوسعات تجريها المملكة في الحرم المكي، ولكن الرجل تمكن من الحصول على فيزا للسعودية، وأفهمني أن تلك الفيزا تؤدي الغرض، وبسبب عدم خبرتي في هذا الأمر صدقته .


وصلت الفيزا في اللحظات الأخيرة، بعد أن كنت قد يئست من الحج هذا العام، وبعد أن بدأت بعمل ترتيبات قضاء العيد هنا في القاهرة، أي أنني قد سافرت إلى المملكة العربية السعودية يوم الجمعة 11 أكتوبر 2013، الموافق للسادس من ذي الحجة وأقلعت الطائرة إلى مطار ينبع فجر ذلك اليوم . حين وصلت إلى مطار ينبع، وجدت شرطي الجوازات يقول لي : (زيارة)، فقلت له : (حج)، فقال لي (بل زيارة، هذا المكتوب في جواز سفرك)، فقلت له : (وأنا لن أبدأ حجتي بكذبة) ! فضحك وختم جواز السفر، وليته ما فعل ! في هذه اللحظة رأيت التأشيرة لأول مرة، كانت تأشيرة (زيارة حكومية) . توجهت بالسيارة إلى المدينة المنورة، وفي عصر اليوم التالي (12 أكتوبر 2013 – السابع من ذي الحجة 1434) بدأنا الرحلة بالسيارة من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة .


كانت الخطة أن نصل مكة ليلا فنبدأ بشعائر العمرة (الطواف والسعي)، ثم نتحرك فورا (أي في الساعات الأولى من يوم التروية) إلى منى . ولكن ما حدث أن الشرطة أوقفتنا (كنا مجموعة من عشرة أشخاص تقريبا) قبيل مكة المكرمة بحوالي ثلاثين كيلوا مترا، وحين قلت للشرطي إن تأشيرتي ليس فيها ختم (غير مصرح له بالحج) كما أخبرني مدير الشركة، قال لي ولكنك لا تحمل تصريحا بالحج، وهذه مخالفة للقانون السعودي وهي من \”الكبائر\” ! كان من الواضح أن الإجراءات جديدة، وأن المملكة تحاول أن تتخذ إجراءات صعبة لأول مرة في تاريخ الحج، فجميع الضباط مرتبكون وينظمون إجراءات غريبة عليهم . خلاصة ما حدث بعد ذلك أنني وجدت نفسي أنا والمجموعة التي معي محتجزين في كمين في الشارع، تحت أحد الجسور على الطريق السريع مع مئات من الحجاج من جنسيات مختلفة .


جوازات السفر والإقامات (بالنسبة لمن يحملون إقامة في المملكة) مع الشرطة، والشرطة نصفها من العمليات الخاصة للأمن الدبلوماسي، والنصف الآخر شرطة عسكرية على ما أظن، أو هكذا بدا لي الأمر . الضباط الكبار كانوا يتصرفون بحرفية واحترام، ولكن المشكلة كانت في العساكر الصغار، شباب في سن المراهقة، بعضهم يبدو لي وكأنه لم يبلغ العشرين من عمره، ويعاملون الحجاج بشكل مهين . غالبية المجموعة التي معي ركبت باصا بعد دقائق، ولسوء حظي ظللت أنا \”رهينة\” وزميل آخر في نفس هذا الموقع لمدة تقترب من سبع ساعات، تحرك خلالها عدة باصات، وجواز سفري في يد شرطي مراهق، كلما كلمته ونبهته إلى طول انتظاري قال (حالا) ! ما عرفته أن الباصات تذهب إلى مبنى الجوازات، حيث يتم تبصيم المخالفين وترحيلهم، مع إلغاء لكل التأشيرات، ومنع دخول المملكة لمدة عشر سنوات، ومن يضبط من أهل السعودية يحاول تهريب الحجيج تصادر سيارته، ويطرد من العمل الحكومي إذا كان موظفا، ويسجن لمدة عام أو عامين، أي أن الموضوع (كبير جدا)، ولهذا اختفى الشخص السعودي الذي كان من المفترض أن يوصلنا لمكة .


إهانات صغار رجال الشرطة للحجاج بدأت تزداد، وأصبحت أرى أن الأمر سيصل إلى كارثة، خصوصا مع تزايد أعداد الحجيج، وكلما زادت الأعداد كلما زاد التوتر وضاق المكان، وكلما زادت حماقات العساكر المراهقين، لقد أصبح المكان ضيقا، ولا طعام ولا ماء ولا دورات مياه، ومع الوقت أصبح هناك بعض الأطفال والنساء ! التوتر يزداد كل دقيقة، وحصل اقتحام للكمين من سيارة يقودها شخص مجنون كاد أن يصدم رجال الشرطة أنفسهم، وأطلق أحد رجال الشرطة طلقة في الهواء، ولكن السيارة مرت وهربت من الكمين، وتحركت خلفها سيارتا شرطة فورا، ولا أدري هل أمسكوا بقائد السيارة أم هرب . خلال وقوفي حدثت بعض الاستثناءات أمام عيني، فتم تُرِكَ بعض الحجاج ممن لديهم (واسطة)، وتم كذلك الإفراج عن بعض المواطنين السعوديين المحتجزين هم وسياراتهم لأنهم نقلوا حجيجا لا يحملون تصاريح حج ! بعد عدة ساعات اختفى الشرطي الذي يحمل جوازي، وظللت ساعة أو أكثر أبحث عنه بلا فائدة، وكلما سألت أحد الضباط عن جوازي سألني عن اسم الشرطي الذي أخذه مني، وكأنني قد ارتكبت جريمة لأنني سلمته جوازي دون أن أعرف اسمه، وكأنني كنت مخيرا أصلا ! حاولت أن أتحدث مع بعض كبار الضباط (كان في الموقع أكثر من رتبة كبيرة، كان هناك عقيد من الأمن الدبلوماسي وآخر من الشرطة العسكرية)، ولكن للأسف وجدت أن الوضع سيزداد توترا .


جلست بين الحجاج وقمت بحركة محاولا تهدئة الأوضاع، لعل هؤلاء الصبية من الشرطة يتذكرون أنهم يتعاملون مع أناس كل ذنبهم في الحياة أنهم يريدون أن يصلوا لبيت الله الحرام، بدأت ألبي قائلا : (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، وبدأ الجميع يردد التلبية، وفي غضون ثوان تعالت الأصوات بالنداء الرباني، يردده مئات الحجاج بملابس الإحرام، مشتاقين لبلوغ الحرم، لا يفصلهم عنه سوى كيلومترات قليلة، وبعض رجال الشرطة المتشنجين . كان توقيفنا في حوالي الساعة العاشرة مساء، والساعة الآن تجاوزت الرابعة صباحا، وأنا لم أنم مذ جئت من القاهرة، أي منذ يومين، والوضع شديدة الصعوبة، واقف على رجلي منذ خمس ساعات، ولا أستطيع الجلوس لأن المكان لا يحتمل الجلوس، رمل وقذارة وازدحام . مع مرور الوقت يزداد عدد الحجيج المقبوض عليهم، وفي لحظة بدأ فيها شرطي مراهق الصراخ على الحجاج، تحرك الجمع مرة واحدة، مئات الحجاج اقتحموا الحاجز سيرا على أقدامهم، ولم يستطع أحد توقيفهم، كانوا ألفا أو ألفين ! ورغم ذلك جاء حجاج آخرون، وأوقفتهم الشرطة، وأنا في مكاني، قررت أن لا أتحرك إلا وجواز سفري في يدي، وكنت قد قررت من البداية كيف سأخرج من هذا الموقف .


بدأت بعمل ضجة لكي أعرف أين ذهب جواز سفري، وأخيرا وجدت جواز السفر مع شرطي آخر، تسلمه من الشرطي السمج الذي انتهت ورديته، حفظت اسم الشرطي الجديد (فهد بن عبدالعزيز المالكي) من العمليات الخاصة للأمن الدبلوماسي، وركبت الباص، وتحرك أخيرا إلى نقطة التي من المفترض أن يتم تبصيمنا فيها لكي نغادر السعودية . ما حدث أننا حين وصلنا للنقطة وجدت سائق الباص المصري البشوش يناديني، ويقول لي : (ها هو جواز سفرك، حجا مبرورا، اذهب إلى مكة فورا) ! ونزل الحجاج من الباص، وتحركوا جميعا دون أن يستوقفهم أحد، وكان الجميع في إرهاق شديد، لذلك توجهنا إلى محطة بنزين اسمها \”طيبة\”، بالقرب من منطقة التنعيم، وهناك تحدثت إلى مدير شركة السياحة سامحه الله، واعتذر لي بكل صدق، وقلت له إريد حقيبة سفري بعد إذنك .


النهاية المتوقعة لقصتي أن أذهب إلى مكة، وأن يتضاعف ثواب حجتي بعد كل هذه المشقة، ولكن نهاية القصة ليست سعيدة، لقد حملت حقيبتي وتوجهت إلى مطار جدة فورا، وركبت أول طائرة إلى القاهرة . الحوار الأخير بيني وبين المجموعة التي كانت معي كان يدور حول رأيين، رأي المجموعة وخلاصته أن بيننا وبين الحرم عدة كيلومترات، اللافتة جوارنا تقول (مكة المكرمة 8 كيلو)، وأننا وصلنا بالفعل، وما حدث حدث، ولن يتكرر . ولكن وجهة نظري كانت غير ذلك، وقلت لهم وأنا أبكي والله لا أبقى دقيقة واحدة بعد أن عرفت أن وضعي مخالف للقانون، ولا أبقى دقيقة واحدة في بلد لا يحسن استقبالي أيا كان السبب، ووالله لو كنت في صحن الحرم لانصرفت، قلت ذلك وكأني أقطع قطعة لحم من جسدي، قلت ذلك وأنا أحرم نفسي من أول حجة في حياتي، ولكني لن أقبل أن أتحايل على قانون أي بلد، وانصرافي كفارة لما لم قصرت فيه من ضرورة التأكد من سلامة أوراقي .


هذه القصة أرويها لعدة أسباب :


أولا : لكي أؤكد على أنني قد سامحت كل من تسبب في هذا الوضع الحرج، وكل من أساء لي بأي شكل من الأشكال، سواء صاحب الشركة السياحية الذي لم يكن له هدف إلا أن يخدمني، أو حتى من الشرطة السعودية التي كانت تحاول تطبيق القانون . ثانيا : ليس معنى أن أروي هذه القصة أنني لا أؤيد إجراءات تقنين الحج والسيطرة على عدد الحجاج، ومنع من لم يستوف الإجراءات القانونية، بل أنا أرى أن ذلك واجب على المملكة، وولاية ولي الأمر في هذا الموضوع ولاية حسبة، وليست ولاية سياسية، ولا يجب إقحام السياسة في الأمر، ويجب الالتزام بهذه القوانين، ومخالفتها تعتبر مخالفة شرعية يأثم عليها الإنسان في الآخرة قبل الدنيا .


ثالثا : أحب أن أعتذر للمملكة العربية السعودية على دخولي غير القانوني، وهو ما تسبب في هذا الموقف المحرج، وعذري أنني لم أكن أعرف، فأنا رجل حسن النية، ومغادرتي دون إكمال حجي دليل على ذلك . رابعا : لكي أطرح الموضوع على الساحة، يا قوم … ماذا يفعل رجل حسن النية يريد أن يسقط حج الفريضة عن نفسه؟ ماذا يفعل ملايين الناس الذين يتمنون زيارة بيت الله الحرام ولا يتسطيعون، بينما هناك من يحج أربعين مرة وخمسين مرة؟ أنا لا أريد أن أحج كل عام كما يفعل غيري، إريد حجة واحدة أقابل بها ربي، وها أنا في العقد الخامس من عمري دون أن أفعل ذلك برغم محاولاتي المتكررة . لقد امتلكت شجاعة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه وتصحيحه، فهل يملك من بيدهم الأمر أن يعترفوا بأن هناك فسادا كبيرا في الدولتين (أعني مصر والسعودية)، وأن غالبية الحجيج يدخلون المملكة بشكل غير شرعي، وأن هناك مستفيدين من هذه الأوضاع الخاطئة؟ هل يجرؤ أحد على فتح ملف التأشيرات التي تصدر كل عام بنفس الطريقة لتمنح البعض وتمنع آخرين؟ هل يجرؤ أحد أن يقول إن مخالفة الحاج لبعض القوانين والإجراءات لا تبيح إهانته أو إذلاله؟ هل يجرؤ أحد على أن يقول آن الأوان لأن تبذل المملكة جهدا أكبر في تنظيم الحج والتوسعة على الناس كما تبذل الجهد في توسعة المباني؟ أنا لا أقصد أي إهانة لأي أحد، ولا أقصد أي مزايدة على أي حاكم أو حكومة، ولكن ما حدث معي كان لا بد أن يروى، وآن الأوان للقضاء على ظاهرة تأشيرات الحج تلك !


تساءلت في بداية القصة هل يغفر القارئ للكاتب نهاية غير سعيدة لقصة مشوقة؟ هل يغفر القارئ للكاتب نهاية محبطة لقصة تستحق أن تنتهي بأمل كبير لحياة جديدة؟ أرجو من القارئ أن يغفر لي هذه النهاية الحزينة، ولكن ذلك ما أملاه علي ضميري، لقد عدت إلى مصر دون أن أكمل حجتي ! كلي ألم، ولكني أشعر أنها قد كتبت لي بنيتي، وأشعر أنني حججت، وأشعر أن حرماني لنفسي من أداء هذه الفريضة وبيني وبين بيت الله دقائق سيضاعف ثوابي في حجتي الثانية في عام قادم بإذن الله، إذا نجحت في تحقيق الحلم أو المعجزة … أعني التأشيرة ! أشعر أنني قد حججت، حتى لو كنت قد حرمت من أداء الشعائر .
كل عام وأنتم بخير .

عبدالرحمن يوسف
موقع الكتروني :  www.arahman.net
بريد الكتروني :   [email protected]

المقال السابق

الانصراف.. فضيلة أم رذيلة؟

المقال التالي

أن تتظاهر باحترامك للقانون

منشورات ذات صلة
Total
0
Share