جرائم مبارك الحقيقية

المقال منشور بجريدة اليوم السابع 12-5-2013

إن أى رئيس حى فاسد أو رئيس مجلس محلى فاسد فى أى قرية صغيرة فى أقاصى صعيد مصر يرتكب جرائم أكثر وأكبر مما يحاكم به مبارك الآن، لقد حصلنا على حكم صحيح فى قضية خاطئة، وكأننا أمسكنا قاتلا محترفا قتل عشرات الأشخاص ظلما بمخالفة مرور «أمن ومتانة» مثلا!
إن الجريمة التى ينبغى أن يحاكم بها الرئيس المخلوع محمد حسنى السيد مبارك هى جريمة الخيانة العظمى، وذلك لأسباب ثلاثة:


الأول: التعذيب والقتل المباشرين وغير المباشرين أما عن التعذيب فهى مئات الآلاف من الحالات الموثقة وغير الموثقة التى يسهل إثباتها، وهى أمر معلوم من الحياة بالضرورة فى مصر.لا يوجد قسم شرطة فى مصر فى عهده إلا ومارس التعذيب المنظم ضد أناس لا علاقة لهم بالسياسة أصلا، ناهيك عن الناشطين السياسيين، هذا بخلاف الجماعات الإسلامية التى تم التعامل مع أعضائها بالتعذيب والقتل خارج نطاق القانون. هناك من لا يصدق هذه التهم، وهؤلاء مصريون مخلصون، ولكنهم «شافوا حكم مبارك فيديو»، ولم يطلهم ظلمه كما حدث مع آلاف آخرين.


وأما عن القتل فيشمل الاغتيال السياسى فى السجون والمعتقلات، ويشمل المسؤولية السياسية عن حوادث القطارات والعبارات، ومن ضمنها حادث عبارة السلام 98 التى استكثر فيها رئيس الجمهورية أن يرسل زوارق الإنقاذ فى وقت مناسب كان من الممكن أن ينقذ مئات المصريين البسطاء. إن مسؤولية مبارك عن هذه الحوادث مسؤولية حقيقية ثابتة، لأنه استمر فى الحكم عشرات السنين دون أن يصلح، ودون أن يعطى فرصة للإصلاح، ودون أن يحاول الإصلاح أصلا، ودون أن يحافظ على هذه المرافق كما تسلمها، فكان دائما رئيسا للفاسدين المفسدين، وكان دائما ظهيرا للمجرمين المنتفعين، فهو من عيَّنَ صاحب العبارة المذكورة فى مجلس الشورى، ليمنحه حصانة من المساءلة، وهو من يحميه ليخرج سالما بعد حدوث الجريمة، وقس على ذلك عشرات الجرائم التى ذهب ضحيتها آلاف المصريين. وفى نهاية الأمر تأتى مسؤوليته عن قتل شهداء ثورة يناير فى آخر أيام حكمه، أى أن ذلك امتداد لقتل منظم منذ عشرات السنين!


السبب الثانى: التآمر والتفريط فى ثروات مصر الطبيعية وممتلكاتها العامة لقد تآمر الرئيس المخلوع على مصر من خلال ثرواتها، فأهدر خلال فترة حكمه ما يقرب من ربع مساحة الأرض الزراعية فى مصر «أكثر من 2 مليون فدان»، فسمح للناس بالبناء، ثم أمر جهاز الدولة بالتصالح معهم مقابل أصواتهم فى الانتخابات المزورة. هذه جريمة تغير بنية وقيم المجتمع المصرى، وتغير طبيعة الإنسان المصرى، فتحوله من فلاح يقدس الأرض ويبذل من أجلها كل غال ورخيص كما فعل أجداده منذ آلاف السنين، إلى إنسان انتهازى يكره الزراعة لأنها سبب فقره، ويحتقر الأرض التى يقف عليها، ويتمنى أن تدخل «كردون المبانى»، ويفعل من أجل ذلك أى شىء. لقد سلم هذا الرجل ثروات مصر إلى أعدائها، ليس من 


خلال صفقات الغاز المشبوهة فقط، بل من خلال غالبية صفقات بيع القطاع العام، تلك الصفقات التى تمت دون أن يعرف المصريون كيف تم تقييم الأصول؟ أو من الذى قيمها؟ ولم نعرف من الذى اشترى؟ ولا متى اشترى؟ أو كيف اشترى؟ وفى كثير من الأحيان لم نعرف بكم اشترى؟ ولم نعرف كذلك كيف تم التصرف فى أموال الخصخصة؟ ولم نعرف كيف أنفقت هذه الأموال! هذه الخصخصة بهذه الطريقة تخالف دستور 71 نفسه، المواد «29، 30، 33» وغيرها، بل إن دستور 71 يشرك قادة القوات المسلحة فى المسؤولية عن بيع القطاع العام، وذلك فى المادة 180، والتى يقول نصها: «الدولة وحدها هى التى تنشئ القوات المسلحة وهى ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها وحماية مكاسب النضال الشعبى الاشتراكية».

أى أن حماية «مكاسب النضال الشعبى» ومن أهمها القطاع العام واجب على القوات المسلحة، يعنى –من الآخر– الدستور المصرى فى ذلك الوقت يفرض على الجيش أن يقف لرئيس الدولة إذا حاول أن يبيع أى شركة من شركات القطاع العام، وهو ما لم يحدث! السبب الثالث: التآمر على الأمن القومى المصرى مع أعداء الوطن وإفساد الحياة السياسية لقد حول هذا الرجل مصر إلى ذنَب أمريكى إسرائيلى، فصارت مصر دولة لا وزن لها، عملها فى حقيقة الأمر هو منح التسهيلات والتشهيلات لأمريكا وإسرائيل، ولولا ذلك لما استمر هذا الرجل فى موقعه ثلاثين عاما بلا منازع فى الحكم.

أما إفساد الحياة السياسية فخلاصة القول فيه أن هذا الرجل مسؤول مسؤولية كاملة عن تزوير سائر الانتخابات التى جرت فى عهده، ومسؤول كذلك عن النخبة التى تصدرت المشهد بعد خلعه، والتى نعانى منها الآن، وهو مسؤول أيضا عن مصير نظام الحكم من بعده، إذ إنه لو سمح بإقامة حياة ديمقراطية سليمة وتعددية حزبية حقيقية، لما احترنا بعد الثورة فى إيجاد شخص يصلح ليكون رئيسا للجمهورية، ولما تورطنا فى النهاية مع شخص تتلخص معظم خبراته السياسية فى عقد الصفقات مع أمن الدولة لإخلاء الدوائر المطلوبة لرموز الحزب الوطنى،  والمنافسة على العدد المحدد له من المقاعد! هذه الجرائم من السهل إثباتها، ومن الواجب على كل وطنى شريف أن يوثق لها، لكى لا يأتى علينا يوم تصبح فيه الثورة متهمة بأنها خلعت رئيسا منتخبا شريفا، ووالله الذى لا إله إلا هو لو كان هناك أى أمل فى الإصلاح دون أن ننزل للشوارع للجأنا إليه، ولكن المصريين طرقوا جميع الأبواب عشرات السنين فلم يجدوا إلا طاغية مستبدا لا يبالى إلا بتثبيت حكمه على حساب الوطن. هذه الجرائم سهلة الإثبات، ومرجعها إلى الدستور الذى حكم به مبارك، إنها جرائم تحتكم إلى منطق دستورى قانونى، وليس الحَكَمُ فيها هو النزق الثورى، لذلك حين يتحدث بعض المزورين عن القانون لا ينبغى أن نتحدث معهم عن مخالفات مبارك لقانون المرور، بل لا بد أن نتحدث معهم عن جريمة الخيانة العظمى التى ارتكبها آلاف المرات خلال عشرات السنين من الحكم الظالم.

لست حاقدا على مبارك من منطلق شخصى، ولست داعية انتقام، ولكنى أكتب وأسجل جرائمه للتاريخ. ملحوظة: سيحاول البعض أن يقارن بين جرائم مرسى ومبارك، وهذا ليس موضوع المقالة، وسأجتهد فى الكتابة فى هذا الموضوع بإذن الله.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين.

المقال السابق

لا أحد يريد استقلال القضاء

المقال التالي

الليمون جزء من الديمقراطية

منشورات ذات صلة
Total
0
Share