البداية الكلاسيكية لمقال بهذا العنوان جملة من جملتين :
الأولى : \”أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة\” ، ثم ما تيسر من تفنيد لهذه النظرية التي يفسر بها البعض جميع أحداث التاريخ .
الثانية : \”أنا أؤمن بنظرية المؤامرة\” ، ثم ما تيسر من أدلة و أحداث تؤكد وجود آلاف المؤامرات عبر مسيرة البشرية .
و لكني لن أبدأ مقالي بجملة من الجملتين السابقتين ، بل أقول و بالله التوفيق :
إن افتراض أن جميع أحداث التاريخ الكبرى و الصغرى ، أو الكبرى فقط ، تحركه مؤامرة حاكها شخص أو أشخاص ، أو دولة أو مجموعة دول ، يلغي إرادة الإنسان ، ويلغي مقاومة الشعوب ، بل أكاد أتجاوز و أقول يلغي قدرة الله سبحانه و تعالى في التدخل لتغيير \”الأمر الواقع\” بمفاجأة قدرية أرادها رب العزة جل و علا .
و كذلك المبالغة في تصوير أحداث التاريخ البشري ، و كأنها ارتجال أو خبط عشواء لا تخطيط أو تآمر فيها ، يلغي دور العباقرة ، و يستهين بتحالفات القوى الكبرى عبر مراحل التاريخ .
بمعنى آخر : لا يمكن أن تكون كل أحداث التاريخ مرتبة بمؤامرة محكمة ، و لا يمكن كذلك أن تكون كل أحداث التأريخ منزهة عن التآمر !
المؤامرة … موجودة ، و لكنها ليست في كل الأحداث .
من هذا المنطلق أدخل في موضوع المقال ، و أقول : رمضان – حسب ما شرع الإسلام – شهر العبادة ، و العبادة هنا بمفهومها الصحيح الواسع ، الذي يبدأ بالجهاد بالسلاح ، حتى يصل إلى طقوس العبادة ، مرورا بإتقان العمل ، وطلب العلم ، و ما شابه ذلك .
لكن رمضان اليوم أصبح شيئا من ثلاثة :
1 – إما شهر اللهو الأعظم ، و اللهو هنا لهوٌ غير برئ ، بل لهوٌ فاسق بذئ لا يراعي شرعا أو عرفا .
2 – و إما شهر الطعام الأكبر ، بمبالغة لا يتصورها عقل ، و بما يتناقض مع حكمة تشريع الصيام من الأساس .
3 – و إما شهر العبادة المظهرية الفارغة من المضمون ، و أنا هنا أعني العبادة بمفهومها الضيق الذي لا يرضاه الإسلام ، بمعنى صيام و قيام لا طائل من ورائهما إلا الجوع و العطش ، أو القيام و القعود ، كما جاء في الأثر .
أعداء الأمة يدركون خطورة هذا الشهر ، و يعلمون أن هذا الشهر كان دائما فرصة تجدد و تجديد فردي وأسري و اجتماعي و دولي .
ففيه يجدد الفرد علاقته بالله بكل أشكال العبادة ، وتجدد الأسرة علاقاتها ببعضها ، بصلة الرحم ، ويجدد المجتمع علاقته بذاته من خلال توحيد برنامج العمل اليومي القائم على مواعيد الإمساك و الإفطار ، و تجدد الدولة عضلاتها على المستوى الداخلي بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و على المستوى الخارجي بالجهاد ضد أعداء الأمة .
استهداف الأمة من الناحية الزمانية بحيث يمر هذا الشهر و حال الأمة من بعده صار شرا مما كان قبله ، أمر يدعو الإنسان للشك في وجود مؤامرة على العقل العربي المسلم ، لإفساد رمضان ، و جعله يمر دون فائدة تذكر ، بل بأضرار لا تعد و لا تحصى .
لك الحرية المطلقة – قارئي العزيز – في تصوِّر أن ما يحدث إفراز طبيعي لحالة الانحطاط التي يعيشها العالم العربي ، أو أن تتصور أن مؤامرة ما نتج عنها خطة ما ، بحيث لا نستفيد من رمضان ، بل نتضرر !
نفس المنطق بإمكانك أن تفسر به عدم استفادة الأمة من موسم الحج ، و من فريضة الزكاة ، و غيرها من مواطن القوة ، التي أصبحت – بفضل عدم الفهم أو المؤامرة – مواطن ضعف …!
كل عام و أنتم بخير … رمضان كريم …
عبدالرحمن يوسف
القاهرة 13/8/2009