على مائدة الرحمن

جلس ببدلته الأنيقة على مائدة الرحمن في الحي الشعبي الملاصق للحي الراقي الذي يسكنه ، ومع أذان المغرب بدء بتناول بضع تمرات ، ثم قام من مكانه و هو يشرب كوب ماء شبه بارد ، (لم يكن يهتم ببرودة الماء لأن جو الشتاء لا يُشعرُهُ بضرورة برودة الماء) ، و بدء يساعد البسطاء في تناول طعامهم ، يداعبهم ، و يتعرف عليهم ، يسأل الكبير عن عمله ، عن أقربائه في بلده الأصلية ، يسأل الأطفال عن أعمارهم ، و أين وصلوا في مراحلهم الدراسية ، يسأل السيدات عن أبنائهن و بناتهن .


بعد أن انتهى الناس من تناول إفطارهم ، بدء هو بتقديم وليمته ، فجلس يعطي لبعض المترددين على المائدة مبالغ نقدية ، بعد أن يستأذنهم في أخذ بياناتهم (صورة البطاقة ومحل السكن و رقم الهاتف إن وُجِدَ ) .


هكذا كان يفعل في أغلب أيام الشهر الكريم ، و لا يكرر زيارة المائدة ذاتها مرتين في العام الواحد .
إصراره على الحصول على بيانات آخذ المعونة سببه رغبته في تواصل العطاء طوال العام ، أو طوال الأعوام …!

تراكمت في سجلاته بيانات مئات من المحتاجين ، و ما زال مصراً على عادته تلك ، يحاول أن يتخلص من عبء حب المال كما قال لي .

حين سأله سائل : \”لماذا لا تقيم مائدة من مالك ؟\”
جاءت إجابته صادمة ، قال : \”لأنني أكره موائد الرحمن\” …!

استغرب السائل الإجابة ، و لكن صديقي شرح الإجابة قائلا : \”إن أفعال الخير تدل على نوع الشر ، كما يدل الدواء على نوع المرض !

فإذا شاهدت شخصا يتناول حبة (أسبرين) فمعنى ذلك أنه مصاب بالصداع ، و هذا أمرٌ مفرحٌ ، لأن مشكلته بسيطة ، فهو يعاني من صداع ، و ستقضي حبة الأسبرين عليه بشكل أو بآخر ، و لكنك حين ترى شخصا يتناول جرعة (كيماوي) فإن ذلك أمر محزن في كل الأحوال ، لأن معنى ذلك أنه مصاب بالسرطان .


هكذا أرى موائد الرحمن – و الكلام ما زال لصديقي – ، إنها تدل على خلل رهيب في المجتمع المصري ، كما أن فيها إذلالا للنفس البشرية كبيرا …!

غالبية من يترددون على هذه الموائد من نوع (عزيز قوم ذلّ) ، و من خلال ما تراكم عندي من بيانات أرى أن الغالبية من موظفي الحكومة ، و أصحاب المهن ، و لكنهم لا يستطيعون توفير وجبات إفطار كريمة (أو غير كريمة) لأسرهم في الشهر الكريم \”…!

سأله سائل : و هل معنى ذلك أن لا تقيم مائدة من مالك …؟

أجاب : \”أكره منظر الناس و هم جياع … حتى لو على مائدتي …!
أُفَضِّلُ أن تصلهم معونة إلى بيوتهم ، وهم متعففون عن السؤال\” .


لأجل هذه التجربة ، و من خلال معرفتي الوثيقة بهذا الشخص الرائع … أصبحت أكره موائد الرحمن …!

و رغم أن إطعام الطعام من أفضل القربات إلى الله ، إلا إنني حين أرى الناس تتناول إفطارها على هذه الموائد ، أتخيلهم و قد عُلِّقَتْ جرعات (الكيماوي) على أذرعهم …!
تقبل الله من كل متصدق صدقته ، و من كل صائم صومه و كل عام و أنتم بخير … 

عبدالرحمن يوسف
القاهرة 1/9/2009

المقال السابق

المؤامرة الرمضانية ...!

المقال التالي

( بفنوسي يا كناب ...! )

منشورات ذات صلة
Total
0
Share