منابع النيل تبدأ من غزة …!

( المقال منشور بجريدة الدستور عدد الجمعة 7/5/2010 ) 

لن أبدأ مقالتي هذه بوصف الحال المتردية للسياسة الخارجية المصرية فكلنا نعلمها، ولن أبدأ بلوم النظام الحاكم الجاثم على أنفاس مصر فكلنا نعاني منه ، ولن أستنكر تخاذلنا الرسمي في حقوقنا التاريخية في مياه النيل ، لأن غيري من الكتاب والمحللين قد فعل ذلك مئات المرات ، مما يجعل هذا الأمر من زوائد الحديث التي ينبغي تجنبها .


أريد في هذه المقالة أن أصف حلا مرحليا على عجالة ، يضمن لمصر (الرسمية) أن توقف دول المنبع عن مطالبتها بتوقيع الاتفاقية الإطارية (ولو مؤقتا) ، والهدف من ذلك أن نحاول تعطيل هذه المصيبة التي تهدد الجميع ، عسى أن ننتفع بما قد يتوفر من وقت ، للتخطيط لمستقبل هذا البلد بما يحفظ ماء وجهه ، وماء نيله !


لا شك أن دول المنبع لها كل الحق في التعامل الجلف مع مصر ، وذلك لأسباب يعلمها كل من تابع هذا الشأن خلال السنوات الماضية ، فهؤلاء القوم لم تمتد لهم يد مصرية بأي معونة في فترات مجاعات استمرت طوال عقد الثمانينات ، وهم مازالوا يذكرون ذلك بمنتهى الألم ، وكذلك دأبت الخارجية المصرية على أن تصعر خدها لإخواننا الأفارقة رغم أن مصالحنا الحقيقية معهم ، لا في باريس وروما وبرلين ، وواشنطن ، وأدلة التعامل الجلف مع إفريقيا كثيرة ، ومنها على سبيل المثال أن السفير الذي يعين في هذه الدول هو السفير غير الكفء ، بل يكون التعيين هناك في بعض الأحيان نوعا من العقوبة ، وبالتالي يحظى الأداء الدبلوماسي هناك بأسوأ ما يمكن من أشكال الأداء …!


ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الدول تتحرك بدوافع وطنية خالصة ، بل هي لا تملك المصلحة في هذا التكتل الموجه ضد مصر ، فبعض هذه الدول لا يستخدم مياه النيل أصلا في أي شيء ، لأنها دول تعتمد زراعاتها على الأمطار ، وبالتالي تصل درجة اعتماد بعض هذه الدول على مياه النيل إلى أقل من 1% .


لذلك لا بد من الاعتراف بأن هذه الدول قد تم توجيهها ضد مصر ، وهم عصا في يد قوة أخرى تحركها ، ومن العته أن نحارب العصا ، و كما يقول توما الأكويني: إذا لم تحرك اليد العصا، فلن تحرك العصا شيئا !


إن ما يحدث اليوم عبارة عن تحرك إسرائيلي أمريكي ضد مصالح مصر الحيوية وأمنها القومي ، ولو كان في نظامنا الحاكم شخص عاقل ، لعرف أن الرد ينبغي أن يكون من خلال أوراق تؤثر على المصالح الأمريكية الإسرائيلية ، مثل فتح معبر رفح ، أو دعم بعض حركات المقاومة ، أو مجرد التلويح بدعم بعض حركات المقاومة ، أما أن نعتبر أن معركتنا مع هذه الدول (الإفريقية) ، فهو تشخيص خاطئ للمرض ، ولن يؤدي في آخر الأمر إلى علاج .


إن مصالح الآخرين لدينا كبيرة ، ولكن ينبغي أن يدار هذا الملف بحكمة من يرى الصورة كاملة (أعني صورة الوطن) ، أما أن تشغلنا أجزاء الصورة (مثل صورة العرش) عن الصورة الكلية ، فهذا عين ما يرغبه العدو ، وهذا هو سبب تخلفنا في ركب الأمم ، وسبب الأزمات التي تعيشها الأمة كلها عامة ، ومصر خاصة ، فحين ينشغل متخذ القرار بتأمين أو تلميع العرش ، يفاجأ الناس بأن البلد كله على شفا موت !


قد يظن البعض أن المسافة بين منابع النيل وغزة كبيرة ، ولكن من يملك البصيرة قد يرى أن ميزان المصالح قد يغير في خرائط الجغرافيا ، فترى النيل ينبع من غزة !


عبدالرحمن يوسف

المقال السابق
Article featured image

أمسية الشاعر عبدالرحمن يوسف بساقية عبدالمنعم الصاوي الأربعاء 5 / 5 / 2010 م

المقال التالي

الخوف.. والشجاعة..! (2-2)

منشورات ذات صلة
Total
0
Share