رحل الجميل الكبير

المقال منشور في جريدة اليوم السابع 26-12-2012 م 


رحل الوزير منصور حسن، السياسى المخضرم الذى قال لا! كان رجلا جميلا فى شكله ومضمونه، رائعا فى أفكاره وفى طريقة تعبيره عنها.  بداية علاقتى به –وأنا أصغر منه بما يزيد على ثلاثة عقود– مكالمة هاتفية كريمة بدأ بها هو فى عام 2005، وكان قد استمع إلى إحدى قصائدى فى هجاء الرئيس المخلوع مبارك، فبادر واتصل بى قائلا: «أحببت أن أشكرك على المتعة التى منحتها لى القصيدة، وعلى موقفك السياسى النبيل»! طلبت منه مقابلة فورا، وبدأت قصتى معه، فجلست معه عدة مرات على فترات متباعدة، ولكن لجلسات مطولة، وكنت ألجأ إليه كلما ادلهمت الأمور، وكنت أستغرب من حظ هذا البلد الذى ابتلى بالعتل المدعو مباركا، وحرم من هذا الشخص الرائع.  جمال هذا الرجل جعل نظام الحكم يتعامل معه بطريقتين، إما باستغلال هذا الجمال لتجميل صورة النظام، وهو ما فعله الرئيس السادات، ثم كانت النتيجة عكس المقصود، فاستقال الوزير منصور حسن حين أعلن السادات عن اعتقالات سبتمبر، واحتفظ الوزير منصور حسن بجماله مشعا مشرقا، واحتفظ بضميره حيا، وحافظ على صورته عند ملايين المصريين، بل ازداد رفعة وإشراقا عند كل الناس.  


وإما بإبعاده عن الصورة تماما لكى لا يظهر قبح النظام، وهو ما فعله الرئيس المخلوع مبارك، وكان هذا المخلوع يكره الوزير منصور حسن كرها شديدا، وله كل الحق فى ذلك، إذ لا مجال للمقارنة بين الرجلين، والمقارنة بينهما كالمقارنة بين حصان عربى أصيل، وبغل بلدى أعرج! بعد قيام الثورة حاول المجلس العسكرى استغلال جمال الوزير منصور حسن لتجميل وجهه، تماما كما فعل الرئيس السادات. وفى تلك الأيام كنت أخاف على الوزير منصور حسن أن يتلوث باقترابه من أمثال هؤلاء، وكتبت ذلك، فهاتفنى رحمه الله وقال لى: «إننى حذر، وسأحاول أن أؤدى واجبى فى خدمة هذا البلد، ولا يجوز لى الانسحاب ومصر تحتاجنا جميعا، وأسألك الدعاء»، ويشهد الله أننى قد دعوت له من قلبى أن يوفقه الله، وأن يحفظه من كل الشرور التى حوله. بعد أن اقتربت انتخابات الرئاسة بدأ اسمه يطرح كمرشح توافقى فهاتفته، وقلت له «أنا على استعداد لدعمك»، وشكرنى وقال لى سيسعدنى ذلك، وسأخبرك حين أتخذ القرار.  ما حدث أن إعلان ترشحه تم بطريقة فهمت خطأ، وبدا أن هناك قوة خفية خلف المشهد تحاول أن تستغل «جمال منصور حسن»، فما كان منه إلا أن اعتذر عن الترشح بكل تعفف وزهد.  


فى تلك الفترة أخطأت فى حقه فى حلقة من برنامجى التلفزيونى «صفحة الرأى»، فعاتبنى برسالة رقيقة على هاتفى، فاتصلت به واعتذرت، ووعدته بالاعتذار علنا، وبالفعل بدأت حلقة اليوم التالى باعتذار علنى له.  ظل فى نفسى شىء، وظللت خائفا أن يكون هذا الرجل الكبير العظيم فى نفسه شىء منى، فشاء الله أن ألتقيه قبل رحيله بحوالى أسبوعين، وكان ذلك فى عزاء الأستاذ يوسف توبة رحمه الله، فجلست جواره، وبدأنا حديثا طويلا، وعند الوداع قلت له: «حضرتك زعلان منى يا أستاذنا»، فقال لى: «أبدا.. أنت عزيز، ومكانتك عندى كما هى».  رحم الله الوزير منصور حسن، الرجل الكبير بتعاليه عن المكاسب الفانية، والسياسى الجميل الذى لم يقبل بأن يستغل أحد جماله فى ستر قبح الظلم.

المقال السابق

أين المدافعون عن القضاء؟

المقال التالي

شكرا لكل من اهتم

منشورات ذات صلة
Total
0
Share