انحيازات المذيعين

المقال منشور بجريدة اليوم السابع 24-4-2012 م 


يجلس المذيع فى الاستوديو أمام الكاميرا على الهواء مباشرة، ويتكلم، ويتكلم، ويتكلم. قلة من مذيعى مصر تعرف خطورة كل كلمة، وقلة من مذيعى مصر استفادت من دروس الخامس والعشرين من يناير، وقلة من مذيعى مصر تغيرت بعد الثورة، وعرفت أن هناك شعبا لا بد من مراعاة رأيه، وأن هناك رأيا عاما يستطيع أن يعين وأن يقيل، وأن هناك خطوطا حمراء لو تجاوزها أى مذيع، فمن الممكن أن يفقد وظيفته، ومن الممكن أن لا يتمكن من المشى فى الشوارع. قلة من المذيعين تتقى الله، وتعرف أن المرء قد يسقط فى النار سبعين خريفا بكلمة. 


الأضواء تحرق، تحرق من الداخل أولا، تحرق الروح، والروح قد تتفحم من شدة الضوء، ومن يستسلم للذة الأضواء، تلسعه الأضواء، وبرغم ذلك يدمن المرء الأضواء، فيصبح عبدا للشهرة، لا يستطيع أن يعيش فى الظل، برغم أن الظل مكان منطقى للنفس السوية، يحمى من حرارة الشمس، ولكن الخلط بين الضوء والحرارة خطأ يقع فيه المشاهير، فهم يفترضون أن الأضواء لا حرارة فيها، والحقيقة أن كل الأضواء فيها حرارة، لذلك يحترقون. 


ليس عيبا أن يكون للمذيع تحيزاته، بل العيب أمران، الأول: أن لا يكون لك تحيزات، ففى هذه الحالة أنت تافه، لا تملك قضية تؤمن بها! 


والعيب الثانى: أن تكذب فى تحيزاتك، وأن تدعى الحياد، وليس ذلك إلا إخفاء لتحيزاتك، فأنت تتحيز باسم الحياد! 

لا أحب أن أكون أحد هذين المذيعين، لا أحب أن أكون مذيعا محايدا (تافها)، فى لحظاتٍ الحياد فيها مستحيل، ولا أحب كذلك أن أزعم الحياد لكى أُشربَ الناسَ انحيازاتى. 


أحب أن أكون أنا، وأنا متحيز، متحيز جدا، وتحيزاتى هى شخصيتى، هى التى تجعلنى كائنا حقيقيا يصدقه البعض، ويكذبه آخرون، يعشقه البعض، ويكرهه آخرون، لا أحب أن يحبنى الناس لأنى ألبس قناعا، لا أريد حبا أو نسب مشاهدات عالية نتجت عن (سوء فهم) بين المشاهد والمذيع، أحب أن يحترمنى الناس وإن اختلفوا معى، وأن يعرفوا آرائى، حتى إذا لم يقتنعوا بها، أحب أن أكون مصدرا لخبر موثق، وعمل جيد يحترمه حتى من اختلف معى فى تحيزاتى، أحب أن أصيب وأخطئ، وأن أعتذر إذا أخطأت. 

أنا فى إجازة من عملى كمذيع تليفزيونى حتى انتهاء انتخابات الرئاسة، ليس خوفا من مواجهة الجمهور بما أنا مؤمن به، ولكن لأن الحياد – فى هذه اللحظة من تاريخ مصر – رفاهية لا أمتلكها. بكل صراحة، أنا متحيز، ومقتنع بأحد المرشحين، وسأدعمه، ولن أكذب على المشاهد الكريم، ولن ألعب معه لعبة ممجوجة اسمها الحياد! ملحوظة: لم أستقل من المؤسسة المحترمة التى أعمل فيها، ولكنى – كما قلت – فى إجازة يفرضها علىَّ احترامى لنفسى وللمشاهد الكريم.

رابط المقال على موقع اليوم السابع

المقال السابق

أسئلة

المقال التالي

شجاعة التليفزيون المصرى ووزيره

منشورات ذات صلة
Total
0
Share