الرَّاحِلونَ بلا قُبُورْ.. !

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 26-7-2020 م

للأمم العريقة ثوابت، تنحت في قلوب الناس نحتا، تتضافر على صنعها عوامل التاريخ والجغرافيا والفلسفة والدين، يمجدها النثر والشعر وأشكال الفنون، وتفاعل الإنسان مع الزمان والمكان.. وحين يمتد بقاء الأمم على ظهر الأرض تصبح هذه “الأشياء” ثوابت، ويصبح من المرهق جدا معرفة كيف تحولت إلى ثوابت، وكيف هي ثوابت في هذا البلد فقط، وليست ثوابت في بلاد أخرى.. دراسة التاريخ تستطيع أن تجيب عن الكثير والكثير من الأسئلة التفصيلية في مثل هذه المواضيع.

من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم لماذا يكاد يُقدس الفلسطيني شجرة الزيتون، ولماذا يعتز التركي بآيا صوفيا (مسجدا لا مجرد مبنى)، ولماذا يوقر الانجليزي “الملكية”، بغض النظر عن (شخص الملك أو الملكة في هذه اللحظة)..

فلسطين أرض الفلسطينيين، وقد كُتب في إثبات ذلك آلاف الكتب والمجلدات، ولكن ما زال الدليل الأقوى الذي يثبت ملكية هذه الأرض لأهلها هو علاقتهم بشجرة الزيتون.

الفلسطيني يفدي بيدر الزيتون بروحه، وكم من شهداء سقطوا دفاعا عن الزيتون، بإمكانك أن تعتبر كل شهداء الثورة الفلسطينية قد ارتقوا دفاعا عن هذه الشجرة بشكل من الأشكال.

لا يوجد دليل يفضح احتلال الصهاينة لهذه الأرض أكبر من عدائهم المطلق للزيتون !

لا يقتلع شجرة الزيتون من تلك الأرض إلا محتل !

*       *       *

إذا طبقت هذا الأمر على مصر، ستجد أن مصر تقدس القبور !

ولا يعتدي على القبور مصري !

اعتدت بلدوزرات “الدولة المصرية” على مقابر المصريين الأسبوع الماضي، هدمتها، شرّدت جثث الأموات، وهتكت سكون العظام، فرأينا جماجم ملقاة على قارعة الطريق وكأنها سقط متاع..

هؤلاء الذين اعتدوا على مقابر المصريين العريقة ليسوا مصريين.. إنهم محتلون، ولا يمكن اعتبارهم ينتمون لهذا البلد بأي شكل من الأشكال !

من أصدر الأمر بهدم قبور المصريين ونبشها.. لا يمكن أن يكون مصريا !

يحاول البعض أن يقول (هذه المقابر لا يوجد فيها أي مقبرة مسجلة “كمبنى أثري” مرّ عليه مائة عام)، الحقيقة أن المنطقة كلها مسجلة في سجلات اليونسكو كمنطقة ذات طراز معماري مميز، أي أنه يجب الحفاظ عليها كما هي، حجرا حجرا..

كما أن الخطيئة الأكبر في هذا المشهد هو الاعتداء على هذه المباني بصفتها (قبورا)، لا بصفتها (آثارا)..

في تاريخ المصريين كثير من حالات نبش قبور الأعداء، ونبش القبور “مهنة” لم تزل موجودة في كل بلاد الدنيا على مدار التاريخ، بما فيها مصر.. ولكن نبش قبور أهل البلاد من قبل حاكم البلاد، فجأة، عنوة، بلا سابق إنذار، بلا أي مهلة لنقل الرفات بما تستحقه من التوقير إلى مكان آخر.. هذا عمل لا يقوم به أحد من أهل هذه البلاد، ولا أظنني أذكر أمرا مماثلا قد حدث في تاريخنا إلا في عهد العسكر.

*       *       *

يظن الكثيرون أن هذا العهد الذي نعيش فيه قد بدأ نهجا جديدا في القمع أو في التسفل، والحقيقة أنه مجرد امتداد لما سبقه، وستجد المنهج ثابتا منذ انقلاب جمال عبدالناصر إلى اليوم..

خطيئة نبش القبور التي نتحدث عنها اليوم ليست الأولى، فالرئيس المخلوع مبارك قد ارتكب تلك الخطيئة أيضا، فأزال مقابر تاريخية لا يمكن أن يعتدي عليها مصري، أزال قبر “المقريزي”، وقبر “ابن خلدون” في عام 2001م، من أجل طريق إسفلتي كان يمكن أن يقام على بعد عدة أمتار دون المساس بهذه القبور.

هذه المقبرة التي أزالها مبارك (حوش الصوفية) دفن فيها عشرات وربما مئات الشخصيات التاريخية التي أثرت مصر، منهم قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن بهادر الغازي، المعروف بابن زقاعة، وشرف الدين الدمياطي‏، والسلطان برقوق الذي أوصى بأن يدفن في مقابر الصوفية مع هؤلاء الصالحين، عسى أن يجاورهم في الآخرة كما جاورهم في الدنيا.

*       *       *

في فبراير من عام 2006م غرقت عبارة السلام98، تلك العبارة المملوكة لرجل أعمال فاسد مدعوم من رجالات دولة مبارك، هلك في تلك الليلة أكثر من ألف مواطن مصري، غرقا بطيئا كسنوات المجاعات.. وبعد هذه المأساة بعدة أسابيع، ورغم الأمر القضائي الصادر بمنع خروج مالك العبارة من البلاد.. خرج الرجل من مطار القاهرة الدولي معززا مكرما..

في تلك الليلة كانت فرصة إنقاذ المئات من هؤلاء المساكين متاحة لساعات طوال، ولكن تحرك فرق الإنقاذ (العسكرية) يتطلب إيقاظ القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو أمر من المحرمات، فانتظرت المؤسسة العسكرية المصرية الوطنية العظيمة طوال الليل حتى استيقظ القائد الهمام، وأخذ “دش” الصباح، ثم تناول إفطاره وقهوته بمنتهى الهدوء، وبعد ذلك أخبروه بما جرى.. كانت أسماك القرش قد التهمت الأحياء والأموات من ركاب السفينة..

وبعد تلك المأساة بساعات.. ذهب القائد الأعلى إلى استاد القاهرة الدولي، ليشهد انتصار المنتخب المصري في كأس إفريقيا الذي كانت تنظمه البلاد في تلك الفترة.. احتفل معه ملايين المصريين الذين لم يعرفوا حجم المأساة بسبب التعتيم الإعلامي.

لقد نبش مبارك القبور في 2001م، وبعدها حرم هؤلاء البسطاء من قبر يؤويهم، وحرم ذويهم من قبر يزار !

*       *       *

هؤلاء ليسوا مصريين !

إنهم محتلون.. مثلهم مثل الجرافة الصهيونية التي تعادي شجرة الزيتون وتقتلعها من الأرض الفلسطينية.. مثلهم مثل الجندي الإسرائيلي المحتل الذي يطلق الرصاص على الطفل والشيخ والمرأة الذين يتصدون للرصاص بصدور عاريات فداء للزيتون..

ستجد العداء للزيتون طبعا أصيلا في كبار قادة الجيش المصري.. فقد اقتلعوا آلاف أشجار الزيتون في سيناء بحجج أمنية واهية..

(منعا للاصطياد في الماء العكر.. الجيش المصري جيشنا، ولكنه مختطف من مجلس عسكري عميل، يبيع أرض الوطن، وثرواته، ومستقبله.. وبوجود هؤلاء في قمرة القيادة أصبح جيشنا مختطفا، شأنه شأن كل مؤسسات الدولة)

*       *       *

في عام 2007م كتبت قصيدتي (الرَّاحِلُونَ بلا قُبُور)، أواسي بها أهالي ضحايا عبارة السلام98، هؤلاء الذين غرق أبناؤهم ولا يجدون قبرا يبكون عليه، ولا شاهد قبر ينقشون فيه كلمة أخيرة، ولم يمشوا في جنازة، ولم يحظوا بعزاء.. هلك أبناؤهم وكان يمكن إنقاذ غالبيتهم، ولكن هلاكهم أهون عند قيادات الجيش من إزعاج القائد الأعلى وإيقاظه من نومه !

في هذه القصيدة أحاول تصوير معنى القبر عند المصري، والجنازة، وزيارة القبر، وطقوس الدفن.. وكيف أن من يحرم الناس من هذه الأشياء ملعون إلى يوم الدين..

أترككم مع القصيدة.. علّ فيها بعض عزاء.. وعلّ من يقرأها يعرف حجم الجريمة التي يرتكبها النظام نباش القبور.. هؤلاء الذين يزعمون أنهم مصريون.. وما هم بمصريين !

*       *       *

الرَّاحِلونَ بلا قُبُورْ.. !

طُرُقُ الأدَاءِ لذلكَ الحُزْنِ المُقيمِ

تَنَوَّعَتْ وتَوَحَّدَتْ … !

والعَائِدُونَ مِنَ التَّغَرُّبِ رَاحِلُونَ إقَامَةً قَسْريَّةً عَبْرَ الرَّحيلِ

كَدَمْعَةٍ فَوْقَ الخُدُودِ

تَبَخَّرَتْ وتجَمَّدَتْ …

مَا بَيْنَ قَعْرِ البَحْرِ أو قَعْرِ السُّجُونِ

وبَيْنَ ظُلْمِ البَحْرِ أو أمْواجِ بَحْرِ الظُّلْمِ

أحْلامٌ كِبَارٌ فـي الطَّريقِ

تَصَدَّعتْ وتَجَلَّدَتْ …

والقَبْرُ أمنيةٌ تَعِزُّ عَلَى الذي قَدْ بَاتَ يَشْتَاقُ الفَقِيدَ

ولَيْسَ يَدْري أيَّ مَوْتٍ أو حَيَاةٍ غَيَّبَتْهُ … !

ولَيْسَ يَعْرفُ أيَّ آمَالٍ هُنَاكَ

تَشَكَّكَتْ وتَأكَّدَتْ … !

والمَوْتُ تَحْتَ المَاءِ حِرْمانٌ مِنَ القَبْرِ الذي

يَبْكِي عَلَيْهِ ذَووكَ فـي الأعيادِ

إثـْبَاتًا لحَقِّكَ فـي وُجُودٍ بَيْنَهُمْ

طَيْفًا يُمَارِسُ عيدَهُ

فـي نَشْوَةٍ لحَظَاتُهَا خَضَعَتْ ولكنْ بالشُّجُونِ تَمَرَّدَتْ …

والقَبْرُ فـي مصرَ القَديمةِ والحَديثـَةِ لَقْطَةٌ تَأتي

ولكِنْ لَيْسَ تَمْضِي

بَلْ تُثـَبَّتُ كَي يَتِمَّ عَلَى المَدَى اسْتِرْجَاعُهَا

فَتُرى بيَوْمٍ فـي انـْكِمَاشٍ

ثُمَّ تُبْصِرُهَا عَليْكَ تَمَدَّدَتْ …

فـي مصرَ تُخْتَرَعُ القُبُورُ لكُلِّ مَعْشُوقٍ وَلِيٍّ أو حَبيبٍ أو زَعِيمٍ

فَاخْتَرَعْنَا للحُسَيْنِ ضَريحَهُ

لتَظَلَّ قِصَّتُهُ دُمُوعًا

كُلَّمَا مُسِحَتْ بمِنْديلِ الزَّمَانِ تجَدَّدَتْ …

فـي مِصْرَ تُحْترَمُ القُبُورُ كَمُعْجِزَاتٍ

لا يُنَافِسُهَا سِوى قَبْرٍ لمِصْريٍّ يُعَادُ عَلَى المَدَى اسْتِكْشَافُهُ

فَتَرَى ذُرَا الأهْرَامِ أو قَبْرًا لتُوتَ

مَسِيرَةً للشَّعْبِ فـي أبْهَى جِنَازَاتٍ وأطْولِهَا وأعْرَقِها

كَمُشْكِلَةٍ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ تسَهَّلَتْ وتَعَقَّدَتْ … !

القَبْرُ فـي مِصْرَ ابتِدَاءٌ للصُّعُودْ …

رَسْمٌ بَيَانِيٌّ يُؤَشِّرُ للصُّمُودْ …

كمُجَسَّمٍ لِبـِلادِ جَنَّاتِ الخـُـلُودْ … !

القَبْرُ فـي مِصْرَ اخْتِرَاعُ المَيِّتِ الفَاني لِشَكْلٍ

ضِمْنَ أشْكالِ الوُجُـــودْ … !

القَبْرُ فـي مِصْرَ اخْتِزَالٌ لاحْتِرَامَاتٍ تُؤَدَّى للجُدُودْ …

القَبْرُ فـي مِصْرَ احْتِرَامُ المَوْتِ

لكِنْ فيهِ إيقَافٌ لتَنْفِيذِ الفَنَاءِ

لذَاكَ تُبْصِرُهُ كَتَجْفيفِ الوُرُودْ …!

القَبْرُ فـي مِصْرَ القَديمَةِ والحَديثـَةِ قَدْ بدا

إنْجَازَ شَعْبٍ لَيْسَ يرْضَى أنْ يُقَيِّدَهُ المَمَاتُ

بأيِّ أشْكَالِ القُيُودْ … !

٭ ٭ ٭

ودَمْعٌ يَعُوقُ البَثَّ فـي سَاعَةِ البَــــــــــــثِّ

كَسُحْبٍ بدونِ الغَيْثِ فـي مَوْسِمِ الغيْــــــــثِ

وحَقْلٌ مِنَ الآلامِ آنَ حَصَــــــــــــــــــــــادُهُ

وقَدْ لانَ للمِحْــــــرَاثِ فـي مَوْسِمِ الحَــــرْثِ

ومَوْتٌ بـِهِ شَكٌّ… ومَوْتٌ مُحَقَّــــــــــــــقٌ

ومَــوْتٌ بلا قَبْـــــــــــرٍ.. ومَـــوْتٌ بلا إرْثِ

إذا حُرِمَ المِصْريُّ قبْرًا يَضُمُّـــــــــــــــــهُ

يَصِيرُ كَمَا الأرْوَاحِ تُحْرَمُ مِنْ بَعْــــــــــثِ !

رُخَامَةُ ذاكَ القَبْرِ لَسْتَ تَنَالُهَـــــــــــــــــا

ونَـــارُكَ لَمْ تُبْصِرْ طَريقًا إلى النَّفْــــــــــثِ

إذا كُنْتَ لَمْ تَأخُـــــــــــــذْ عَزَاءً بمَيِّـــــتٍ

فَكَيْفَ – بـِـرَبِّ النَّاسِ – سَوْفَ لَهُ تَرْثِي ؟

٭ ٭ ٭

فـي مِصْرَ تَنْتَظِرُ القُبُورُ زيَارَةً فـي كُلِّ شِبْهِ مُنَاسَبَاتٍ

فَالزِّيَارَةُ فـي الخَميسِ

ومَعْ قُدُومِ الأرْبَعِينِ وكُلِّ عِيدٍ …

والزِّيَارَةُ كُلَّ عَامٍ

كَيْ يَعِيشَ المَرْءُ يَذكُرُ رَاحِلينَ عَنِ الوُجُودِ

ويَجْمَعُ القَبْرُ الرُّفاةَ مِنَ الجُدُودِ إلى قَليلي الحَظِّ

مِنْ بَعْضِ الشَّبَابِ

لكَيْ يَصيرَ القَبْرُ مِثـْلَ خَريطَةٍ زَمَنِيَّةٍ للعَائِلةْ !

فـي مِصْرَ تَخْتَلِفُ الأمُورُ

فَلَيْسَ مَعْنَى القَبْرِ إقْصَاءَ المَمَاتِ عَنِ الحَيَاةِ

وإنَّمَا أنْ يُصْبـِحَ القَبْرُ المَزَارَ

ويُصْبـِحَ الزُّوَّارُ حُجَّاجًا لذاكَ القَبْرِ طُولَ حَيَاتِهِمْ

فَزيَارَةُ القَبْرِ التِزَامٌ بالتِزَامِ الحُزْنِ رَغْمَ النَّظْرَةِ المُتَفَائِلَةْ … !

وزيَارَةُ القَبْرِ اشْتِهَاءُ الحُزْنِ خَوْفَ الفَرْحِ

(إنَّ الفَرْحَ أمْرٌ عَارضٌ فـي رحْلةِ المِصْرِيِّ عَبْرَ العُمْرِ)!

والأفْرَاحُ فـي مِصْرَ اعْتِدَاءاتٌ عَلَى نُظُمِ الحَيَاةِ

نَغُضُّ طَرْفَ الحُزْنِ عَنْهَا كَيْ تَسِيرَ القَافِلَةْ … !

وزيَارَةُ القَبْرِ اعْتِيَادُ الحُزْنِ

تَدْريبًا عَلَى مَا سَوْفَ تَلْقَى – إنْ حَييتَ بمِصْرَ عَامًا أو أقَلَّ –

فَمَنْطِقُ الأحْزَانِ مَفْرُوضٌ ومَتْبُوعٌ

لكَيْ تَرْضَى بـِقَسْمِكَ حِينَ تَأتي النَّازلةْ … !

وزيَارَةُ القَبْرِ اشْتِعَالُ الحُزْنِ فـي الأفْرَاحِ

دَمْجٌ للفقِيدِ – بـِلا افتِعَالٍ – فـي سِيَاقَاتِ الوُجُودِ

لكَيْ يُرَى شَكْلُ العَلاقَةِ بالرَّحِيلِ قَطِيعَةً مُتَوَاصِلَةْ … !

فـي مِصْرَ حِرْمَانُ الفَقِيدِ مِنَ الزِّيَارَةِ

كُلَّمَا اقْتَضَتِ الدُّمُوعُ

جَريمَةٌ مُتَكَامِلَةْ … !

فـي مِصْرَ تَخْتَلِطُ الزِّيَارَةُ فـي المَدَافِنِ بالزِّيَارَةِ فـي البُيُوتْ …

فـي مِصْرَ مَنْ حُرِمَ الزِّيارَةَ فـي المَمَاتِ يصِيرُ مَيْتًا لا يموتْ …

فـي مِصْرَ يُلقَى النَّاسُ للأسْمَاكِ

مِثـْلَ الطُّعْمِ والدُّنْيَا سُكُوتْ …

أسْمَاكُ هَذا البَحْرِ تَأكُلُهُمْ

لكَيْ يَصْطَادَهَا مِنْ بَعْدُ أصْحَابُ اليُخُوتْ … !

٭ ٭ ٭

زيَارَةُ ذَاكَ القَبْرِ كُلُّ طُمُوحِـــــــــي

بـِهَا تَمْسَحُ الأيَّامُ كُلَّ جُرُوحــــــــي

زيَارَةُ ذَاكَ القَبْرِ فَرْضٌ مُؤَجَّـــــــلٌ

هَدَمْتُ بهِ قَسْرًا جَميعَ صُرُوحِـــــي

فصِرْتُ كَرُوحٍ فـي شَقَاءٍ بجِسْمِهَـا

وصِرْتُ كَجِسْمٍ فـي الشَّقَاءِ بـِـرُوحِ

فَلا بَحْرَ يُعْطِيني رُفَاةَ أحِبَّتِـــــــــي

ولا بَرَّ يُعْطِيني طَريقَ نُــــــــزُوحِ !

٭ ٭ ٭

فـي مِصْرَ قَدْ تَبْدُو طُقُوسُ الدَّفْنِ للعَيْنِ الغَريبَةِ ذُرْوَةَ

اسْتِسْلامِ شَعْبٍ للدِّيَانَاتِ القَدِيمَةِ والسَّلاطينِ العُتَاةْ …

لَكِنْ طُقُوسُ الدَّفْنِ فـي مِصْرَ اخْتِرَاعٌ عَبْقَريٌّ

يَسْتعِيدُ بـِهِ الفَقِيدُ وُجُودَهُ فـي قَلْبِ مَنْ عَرَفُوهُ عَبْرَ العُمْرِ

كاليَخْضُورِ يَجْري فـي النَّبَاتْ …

فـي مِصْرَ تَخْتَزِلُ الجِنَازَةُ كُلَّ أشْكَالِ الحَياةْ …

تَبْدُو كَمَوْكِبِ قَائِدٍ ذي هَيْبَةٍ

قَدْ فَاقَ عِنْدَ النَّاسِ آلافَ الوُلاةْ …

الفَنُّ والمِعْمَارُ والكميَاءُ فـي مِصْرَ القَديمَةِ والحَديثـَةِ

ذُرْوَةُ اسْتِخْدَامِ دُنْيَا النَّاسِ مِنْ أجْلِ المَمَاتْ … !

حِفْظُ الرُّفَاةِ بمِصْرَ يَعْنِي خُلْدُ ذَاتْ … !

٭ ٭ ٭

هَجَوْتُ وهَلْ يَدْنُو هِجَائي مِنَ القَصْـــــــــرِ؟

وهَلْ تَمْنَعُ الأشْعَارُ غَائِلَةَ الدَّهْـــــــــرِ؟

هَجَوْتُ ومَا أطْفَأتُ حُرْقَةَ لَوْعَتــــــــــــــــي

فَعُدْتُ لذاكَ الهَجْوِ مِنْ أوَّلِ السَّطْـــــــرِ

جُنُودُكَ يَا جَبَّارُ سِكِّينُ قَاتِـــــــــــــــــــــــــلٍ

يَزيدُ بـِهِ لَيْلي ليُنْقَصَ مِنْ فَجْــــــــــري

أنَامُ بـِــلا حُلْمٍ وأنْتَ مُحَكَّــــــــــــــــــــــــــمٌ

وسِجْنُكَ مِنْ حَوْلي.. وبَوْلُكَ فـي نَهْري

وكُرْهُكَ فـي قَلبي ومَوْتُكَ مُنْيَتــــــــــــــــي

وسُمُّكَ فـي بَطْنِي.. وسَيْفُكَ فـي نَحْري

وتَحْسَبُني أرْضَى بحُكْمِكَ فَوْقَنَـــــــــــــــــا

أُبَايعُ فـي جَهْري.. وألْعَنُ فـي سِــرِّي !

مَصَائِبُ كُلِّ الكَوْنِ تَبْدُو كَصَخْـــــــــــــرَةٍ

وتَسْقُطُ جُلمُودًا عَلَى فرْحَةِ المِصْــري

وأسْمَعُ صَرْخَاتِ الضَّحَايَا تحَشْرَجَــــــتْ

تُنَادي بـِلا جَدْوَى لِتَغْرَقَ فـي البَحْــــرِ

وأسْمَعُ لَعْنَاتِ الأهَالي كَطَلْقَــــــــــــــــــةٍ

تَرَبَّصُ كَيْ تُطْلَقَ فـي سَاعَةِ الصِّفْــــرِ

تَهُونُ صُرُوفُ الدَّهْرِ فـي مِصْرَ كُلُّهَـــــا

سِوَى مَوْتِ مِصْريٍّ يَمُوتُ بـِلا قَبْـــرِ !

٭ ٭ ٭

فـي مِصْرَ يُغْفَرُ للذي قَدْ فَاتَهُ عرْسٌ

ولَكِنْ ليْسَ يُغْفَرُ للذي تَرَكَ العَزَاءْ …

فـي مِصْرَ فَاقَتْ مُشْكِلاتُ المَوْتِ مُشْكِلَةَ البَقَاءْ … !

فـي مِصْرَ مَوْتَانَا بعَيْنِ النَّاسِ أحْياءٌ إذا دُفِنُوا كِرَامًا

– إنَّ مَعْنَى المَوْتِ مُخْتَزَلٌ بمَوْتٍ دونَ أيِّ طُقُوسِ دَفْنٍ –

مِثـْـلَ لَيْلٍ لَيْسَ يُنْهِيهِ الضِّيَاءْ … !

يَا رَاحِـلِينَ لقَعْرِ ذَاكَ البَحْرِ فـي لَيْلٍ بـِلا ثـَمَنٍ

ليَنْعَمَ قَاتِلُوكُمْ بالمَزيدِ مِنَ الثــَّـرَاءْ …

يَا رَاحِـلِينَ بـِلا جَثـَامينَ اهْدَؤوا

إنِّي أرَى جُثـْمَانَكُمْ فـي البَحْرِ

بَاتَ مُحَنَّطًا فـي شَكْلِ مَرْجَانٍ يَكُونُ بـِهِ الخُلُودُ فَلا فَنَاءْ …

يا رَاحِـلِينَ بـِلا قُبُورٍ

إنَّ قَبْرَكُمُ غَدَا قَبْرًا بـِحَجْمِ البَحْرِ

شَاهِدُهُ السَّمَاءْ … !

تَمَّتْ فـي القـَـاهِرَة

فبراير 2007م

عبدالرحمن يوسف

رابط المقال على موقع عربي 21

المقال السابق

خدعة "اليونيفورم"

المقال التالي

ورحل هارون هاشم رشيد

منشورات ذات صلة
Total
0
Share