الدولة (العسكدينية) … العلمانية المموهة !

المقال منشور بموقع مصر العربية بتاريخ 14-1-2015 م

يحاول النظام العسكري الذي يحكم مصر منفردا منذ عام 1954 أن يوهمنا بعدة أشياء متناقضة، فهو دائما يصدر للعالم كله أنه نظام (علماني)، وفي الوقت نفسه يصر إصرارا كاملا على التدخل في دين الناس، وعلى تلويث المؤسسات الدينية بإغراقها في السياسة.

فترى هذا النظام (مدعي العلمانية) قد حول جميع المؤسسات الدينية إلى فروع لوزارة الداخلية، فيملي على الخطباء والأئمة ما يقولون وما لا يقولون في شتى المناسبات.

نظام يدعي العلمانية وهو من حرم الأقباط من تولي المناصب العليا في سائر مؤسسات الدولة، في تمييز عنصري لم يحدث في سائر العصور، بما فيها عصور الخلافة الإسلامية (التي يذمها العلمانيون) التي ترقى فيها المسيحيون واليهود في أعلى المناصب، حتى وصلوا إلى درجة تعادل رئيس الوزراء اليوم.

إنه نظام يؤمم الأزهر، ويصادر الأوقاف، ويعين الأئمة والخطباء، ويعدم العلماء، وينفي الدعاة، ويشتري الشيوخ، ويقتل كل من يختلف معه من أهل العلم لو اضطر، من أجل أن تصل الرسالة الدينية للناس كما يراها هو، يدعي العلمانية … ويحمي نفسه بالدين فالخروج على الحاكم حرام شرعا، ولا داعي للخروج أصلا لأن دولتكم إسلامية !

وفي الوقت نفسه يواجه هذا النظام من يطالبه بتطبيق الشريعة، أو بمحاربة الفساد، أو بإتاحة حرية الدعوة، بمقولة شهيرة \”لا سياسية في الدين، ولا دين في السياسة\” !

كيف تكون الدولة علمانية وإسلامية في الوقت نفسه؟

لله في خلقه شؤون !

الأغرب من ذلك أن دولا تدعي أنها إسلامية، وتدعي أنها تتخذ من السلف الصالح قدوة، وتدعي أنها (سلفية) بالمعنى المذهبي الحرفي، وترى هذه الدول تحرم كل أشكال الخروج على الحاكم الشرعي في بلادها، ولكنها ترى أن انقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر عملا لا يخالف الشرع الحنيف !

نحن أمام نظامين … كلاهما كاذب !

فلا النظام المصري (المنقلب) علماني، ولا النظام الخليجي (السلفي) إسلامي !

كلاهما يلعب بسائر الكروت الرابحة، فإذا كانت العلمانية تحشد الجماهير للميادين من أجل إسقاط الإسلاميين … فنحن حماة العلمانية.

وإذا كانت النصوص الشرعية ستضمن لنا أن لا يخرج أحد على حكم عائلتنا الحاكمة … فنحن (مطاوعة) سلفيون.

الكذب والزور والبهتان مرادفات للأنظمة العربية، وستجد الإخوان (بكل خطاياهم المزعومة) ملائكة أطهارا مقارنة بهذا الإفك !

فهم أصحاب وجه واحد، يحملون أكياس الزيت والسكر، وهم يرون ذلك قربة إلى الله، ولا يتنكرون لذلك، إنهم يعطونك الزيت والسكر من أموالهم، لا من ميزانية الدولة، إنهم يعطونك هذه الصدقات وهم لا يعتبرون ذلك عارا.

أحزاب الغبرة ومؤسسات الدولة التي لا يراقبها أحد … يعيرون الإخوان بالزيت والسكر، ثم إذا جد الجد وحان موعد الانتخابات رأيتهم يسلكون المنهج نفسه، ولكن بعد أن ضمنوا أن الدبابات قد أخلت لهم الطريق، وأن المجنزرات قد أزالت لهم المطبات، وأن عربة الترحيلات قد وضعت سائر المرشحين المنافسين في زنازينهم … أو في توابيتهم بعد أن خنقتهم وأحرقتهم بقنابل الغاز !

أنا لا أدافع عن الإخوان، بل أهاجم أحزابا علمانية نظمت صلاة العيد، واستخدمت الزيت والسكر، كالإخوان تماما … بعد أن عيرتهم بذلك دهورا !!!

ولكنهم لم يتجرأوا أن يفعلوا ذلك إلا بعد أن وضع الإخوان في السجون !

علمانيونا منافقون … لا يتورعون عن استخدام الدين في السياسة، (واللي تكسب به العب به) !

علمانيونا لو دار بهم الزمن وتولوا السلطة لن يترددوا لحظة واحدة في استغلال الدين من أجل تمكين دولتهم !

يطل علينا السيد عبدالفتاح السيسي مرشحا رئاسيا، فيقول لنا إن رئيس الدولة مسؤول عن أشياء كثيرة … من ضمنها دين الناس.

إنها العلمانية المموهة، تموه الحياة كلها، فتصبح مواضيع الحياة تنبع من مشكاة واحدة، توقد من \”زيت\” الشؤون المعنوية، ويحليها \”سكر\” أمن الدولة، لا فرق بين ديني ودنيوي، لا فرق بين ما لله وما لقيصر، لا فرق بين نصوص القرآن، وبين اتفاقيات ترسيم الحدود التي تمنح حقول الغاز المصرية في البحر المتوسط لإسرائيل وقبرص، فكل ذلك قد لبس زي الصاعقة، ووضع \”البيريه\” معوجا، وقال للجنرال : \”تمام يا افندم\”.

كيف ذلك أيها العلماني العتيد؟ كيف تتدخل في دين الناس وأنت رجل سياسة؟ أليس ذلك إقحاما للدين في السياسة؟ إذا كان هذا قولك فماذا يمكن أن يقول الخوميني !!!

وبعد أن دخل القصر، قال لعلماء الأزهر وشيخه جهارا نهارا، أنه يرى أفكارا تحارب الدنيا كلها، وهو هنا لا يعتبر نفسه مسؤولا عن دين المصريين فقط، بل يرى نفسه مسؤولا عن دين (وأفكار) سائر المسلمين، فهو يتحدث عن (مليار وسبعة من عشرة).

هذا الذي لا يستطيع أن يقرأ عدة جمل بلغة عربية فصحى، يريد أن يراجع تاريخ الفقه الإسلامي، ويريد أن يحدث الخطاب الديني الإسلامي !

هذا العاجز عن الاستشهاد بآية دون لحن وأخطاء مضحكة مبكية، يريد أن يستدرك على علماء الأمة على مر العصور.

هذا الذي عجز أن يفرق بين (سأحاججكم … وسأحاجيكم) … يريد أن يصحح لملايين العلماء الذين أفنوا أعمارهم في العلم والدعوة.

أقسم بالله العظيم أنا أؤيد أن نراجع تراثنا، ولكن المشكلة أن تكون تلك المراجعة طبقا لرؤية رجل لم يحدث له أي (تحديث) منذ عشرات السنين.

إن آخر (آبديت) أجري له كان في الثالث الإعدادي !!!

نعم … هذا رجل لم يحصل على الشهادة الثانوية (ثانويته عسكرية)، وتوقفت معارفه ومعلوماته عند مرحلة الثالث الإعدادي، ومن بعدها دخل سرداب العلوم العسكرية، ولم يعد، إلا إذا كانت هناك أبحاث في الفقه المقارن وأصول الفقه بقلم \”الشيخ\” السيسي لم نسمع بها نحن المتخصصين !

إذا كان الأمر كذلك فيجب على من يهمه هذا الأمر أن ينشر إضافات وإضاءات السيد الرئيس (حامي الدولة العلمانية) في تجديد الخطاب الديني !

إن التصورات التي عرضها في خطاب المولد النبوي تؤكد أنه لا يعلم أن كل ما قاله ليس أكثر من أقوال مرجوحة في كتب الفقه، لم يطبقها الرسول الكريم ولا صحابته، وأظهر تهافتها مئات الأئمة منذ مئات السنين، وبإمكانه التأكد من ذلك لو جلس مع بعض العلماء الذين رماهم في السجن، أو صادر أموالهم وطاردهم في أقطار الدنيا.

بإمكانه أن ينظر في مئات الكتب التي تحدثت عن تطوير الخطاب الديني خلال العقود الأربعة الماضية، ولكن لا بد أن يعلم أن غالبية هذه الأبحاث عليها أسماء معارضيه الذين يتهمهم بالتطرف والإرهاب.

الدولة الدينية شر مستطير، أنا أعلم ذلك جيدا … فهي دولة تستغل الدين من أجل الحكم، ولكن أقذر دولة دينية في الوجود هي الدولة التي نراها تتكون الآن أمام أعيننا، هذه الدولة (العسكدينية) تخلق دينا جديدا على هواها وتحميه بالدبابات، وتجبر الناس على اعتناقه، ومن يعترض على تحريف الدين يصبح كافرا، يستحق أن تسحب منه شهادة الماجستير والدكتوراه، أو أن تسحب منه الجنسية المصرية، أو تقطع أيديه وأرجله من خلاف، أو ينفى من الأرض ويطارده الإنتربول، أو أن تدوسه المجنزرات باسم الدولة (العسكدينية).

هذه الدولة (العسكدينية) … هي أسوأ أشكال الدولة الدينية، فهي تبيح للناس الكفر بالإسلام الذي عرفوه عبر مئات السنين، فتسمح بالتعريض بالقرآن، وبسب الأئمة، والطعن في البخاري، والمجاهرة بالفسق والإلحاد، وتشكك في مسلمات كتحريم الخمر، وحرمة الظلم … ولكنها لا تقبل أن يخرج أحد عن التفسير العسكري للإسلام، وتعتبر الدين (كتالوج) تصدره الشؤون المعنوية، ومن يخالفه كافر.

أما من يكفر بالقرآن والسنة وينشر تشكيكه في سائر وسائل الإعلام … فهذا خلاف في الرأي، ومن يعارضه متشدد، لا يدرك جوهر الإسلام الوسطي !

موضوعنا في هذه المقالة (دور الدين في الدولة \”العسكدينية\”)، والمسألة أصبحت أوضح من أن توضح، فدور جميع الأفراد، والجماعات، والديانات، والأحزاب، والشعراء، والكتاب، والمؤسسات، والسياسيين، والفنانين … دورهم أن يؤدوا التحية العسكرية للجنرال، وإذا قاوم أحدهم … فهو خائن، كافر، مرتد، لص، ماجن، ملحد، شاذ، جاهل، مأجور، جاسوس، ممول، كاره للجيش والشرطة والوطن … الخ

إن الدولة الدينية تخجل من أن تُحَرِّفَ الدين بهذا الشكل الجاهل المدعي، وتخجل أن تُصَدِّرَ رجالا لا علاقة لهم بالدين وعلومه لقيادة دولة دينية.

أما دولة العسكر … فهي ترى أن الضباط هم سادة سائر العلوم الدينية والدنيوية، إنهم أبطال الرياضة والفن، وأباطرة البناء والهندسة، وعمالقة السياسة والإدارة، وأساتذة النحت والفن والشكيلي والباليه، لذلك بإمكان أي واحد منهم أن يعالج الإيدز بالكفتة، أو أن يجدد الدين بالفكاكة.

إن الطرف الوحيد الذي رضي بما قاله السيسي في تجديد الدين وأشاد به … كان رئيس ما يسمى بالمؤتمر اليهودي العالمي، وتطابق وجهات نظر الرجلين إن دل على شيء فيدل على أن الرجل يحتاج فعلا أن يدخل المرحلة الثانوية !

يا معشر المصريين … هانت !

فوالله ما ارتقى هذا المرتقى الصعب أحد إلا قصمه الله وجعله عبرة، سنبني دولة القانون التي تحترم الأديان، وقبل ذلك تحترم الإنسان.

أما دعاة الدولة (العسكدينية) … فنقول لهم بكل ثقة : عيشوا أيامكم الأخيرة لأن النهاية اقتربت.

عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …

المقال السابق

الاصطفاف الثوري.. الممكن والمستحيل!

المقال التالي

صفحة من ديوان السَّفَر

منشورات ذات صلة
Total
0
Share