أبناء المدينة

\” منشور بجريدة الشرق القطرية عدد الأربعاء 23/6/2010 م .


\” الربيع أجمل الفصول ، أو هكذا أخبرونا في المدرسة منذ الصغر ، ولكن غالبية جيلنا وما بعده من أجيال لا يعرفون فصل الربيع !

أتحدث – طبعاً – عن أبناء المدينة ، وأستثني أبناء الصحراء وأبناء الريف .

أبناء المدينة لا يعرفون سوى الصيف والشتاء ، وعلامة كل منهما الحرارة والبرودة ، أما الخريف والربيع فلا يعرفهما أبناء المدينة !

لكل فصل طيوره ، وأزهاره وطقسه ، ولكل فصل جوه الخاص من حيث طول النهار ، وأنواع الرياح ، ولكل فصل \” مؤثراته الصوتية \” ، وكذلك \” إضاءته \” الخاصة (بلغة السينيما) !


لكن أبناء المدينة لا يدركون ذلك ، فهم مساكين ، إذا أقبل حرٌّ فروا إلى المكيفات ، وإذا أقبل برد هرعوا إلى المدافيء ، وفي جميع الأحوال يعيشون في بيوت تكتفي بالأجهزة الكهربائية ، والإضاءة الساطعة ، فلا يعرفون امتداد الليل من النهار ، ولا يعرفون شكل النجوم الحقيقي في السماء ، ولا يعرفون آيات الله في الكون .


أبناء المدينة محرومون من التعامل مع مكونات الطبيعة لكنهم يعتبرون أنفسهم محظوظين لأنهم لا يتعرضون للأتربة ، ولا يشمون روث البهائم برائحته الكريهة ، ولا تنقطع عنهم الكهرباء إلا نادرا ، ويتناسى أبناء المدينة أنهم يتعرضون لما هو أسوأ من الأتربة ، ويشمون من سموم المدينة ما هو أسوأ بكثير من روث البهائم ، ويحصل لهم من التعطل في زحام المدينة ما هو أسوأ بكثير من انقطاع التيار الكهربائي !


ليس عيباً أن يكون المرء فلاحاً ، أو بدوياً ، وليس جُرْماً أن يكون من أبناء المدينة ، فلا فضل لحضري على بدوي ، ولا العكس ، ولكن العيب – كل العيب – أن تنحاز مؤسساتنا التعليمية والإعلامية لترسيخ مفهوم \” فوقية \” أبناء المدينة ، بحيث يزداد تكبر أبناء المدينة على أهلهم من البدو أو الفلاحين ، ويزداد \” قرف \” الآخرين من أنفسهم !


قد يقول قائل إن التفرقة تعود إلى أن المدينة تتمتع بالبنية الأساسية ،وبالتالي فأهلها مرفهون – نسبياً – مقارنة بإخوانهم في الريف والصحراء .

وأنا أقول : لكن أبناء المدينة محرومون من أشياء كثيرة يتمتع بها الآخرون من أهل الريف والصحراء ، كالهدوء والجو الصحو والأكل الطازج … الخ


أسوأ ما في الأمر أننا نصور حياة المدينة مرادفاً للتقدم ، وكأن المطلوب هو القضاء على الريف ، وكأن الريف يعيش عالة على المدينة ، وكأن المطلوب من أهل الريف أن يتوبوا عن ريفيتهم ويخلعوا ثيابهم \” الفلوكلورية \” ويرتدوا ما تيسر من البنطلونات الجينز ( وحبذا لو كانت ساقطة الخصر ) ، وأن يتعلموا سائر طباع أهل المدينة ليصبحوا مطابقين لمواصفات المواطن المتحضر !


إن تصرفات كثير من الحكومات العربية تجاه أبناء الصحراء وتجاه أهل الريف توحي بشيء من التنكر للأصول ، فترى سائر الخدمات تتجه لإشباع حاجات أهل المدينة ، ويظل الريف والصحراء في حرمان نسبي أو كلي ، ويظل أهل الريف والصحراء محبوسين في عالمهم ، ولا يتم استدعاؤهم إلا من أجل بعض المظاهر الاحتفالية \” الفلوكلورية \” المضحكة ، أو من أجل أن نمن عليهم ببعض حقوقهم في ثروات البلاد ، عند افتتاح مصنع أو مشفى أو مدرسة !


في نهاية الأمر … سيظل أبناء الريف والصحراء يفرقون بين فصول السنة الأربعة ، وسيظل أبناء المدينة في جهلهم ، يظنون أن العام فصلان !


عبدالرحمن يوسف

المقال السابق

من وحي كأس العالم (1)...!

المقال التالي

سامح علي

منشورات ذات صلة
Total
0
Share