ديوان : رثاء امرأة لا تموت

ديوان رثاء امرأة لا تموت

 

إهداء

إلى روح أمي الحبيبة السيدة العظيمة إسعاد عبدالجواد الهرم (أم محمد) رحمها الله … وإلى كل الأمهات اللائي شقين من أجل تربية هذا النشء الصالح …

عبدالرحمن يوسف

القاهرة 1/7/2012م

تُوُفِّيَتْ أُمِّي الحَبيبةُ رَحِمَهَا اللهُ في ظَهيرةِ يومِ الخَميسِ 21/يونيو/2012، وكانَ ذلكَ في مَدينةِ الدَّوْحَةِ بقَطَر، عَنْ عُمْرٍ تَجَاوَزَ الثَّالثَةَ والسَّبْعينَ .

أقولُ تُوُفِّيَتْ، ولا أقولُ رَحَلَتْ، لأنها رَحَلَتْ عَنْ عالمِنا هذا قَبْلَ ذلك التَّاريخِ بعِدَّةِ أَعْوَامٍ، فَقَدْ شَاءَتْ إرادَةُ الله سبحانَهُ أنْ يَرْفَعَ مِنْ دَرَجَاتها عندَهُ بأَنِ ابْتَلاها بمَرَضِ “الزَّهَايْمَر”، فأصْبَحَتْ حاضِرَةً غائبَةً، أو أصبَحَتْ تحضُرُ حينًا وتغيبُ حينًا، ومع الأيامِ أَصْبَحَ الغيابُ أكثرَ مِنَ الحُضُورِ، وللهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، ولَهُ الحَمْدُ على كُلِّ حَالٍ .

في ذلك الوقتِ أَيْقَنْتُ أَنَّ الإنسانَ ما هو إلا ذاكرةٌ، وأَنَّ الإِنسانَ بلا ذاكرَةٍ يُصْبِحُ كَيْنُونَةً أُخْرى غَيْرَ كَيْنُونَتِهِ، وسَلْبُ الذَّاكِرَةِ مَوْتٌ حقيقيٌ لا مَجَازيٌّ، يَنْطَبقُ ذلك على الأفرادِ والجَماعاتِ، وقَدْ رَأَيْتُهُ رَأْيَ عَيْنٍ في أَحَبِّ الناسِ إلى قلبي .

لذلكَ حينَ بَدَأْتُ كتابةَ هَذِهِ  القَصيدةِ لَمْ أَكُنْ أرَ المَوْتَ شَكْلا وحيدًا للرَّحيلِ، بَلْ كُنْتُ أَعْرِفُ تمامًا أَنَّ الرَّحيلَ قَدْ يَكُونُ برَحيلِ ذَاكِرَةِ الإنْسانِ، وأَنَّ الإنْسانَ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يَرْحَلَ وَهْوَ على قَيْدِ الحَيَاةِ (وحينَهَا مِنَ المُمْكِنِ بلْ مِنَ الواجبِ رِثَاؤُهُ!)، كما أنهُ مِنَ المُمْكِنِ أَنْ يبقى حيًّا أَبَدَ الدَّهْرِ وإنْ مَاتَ وقُبِرَ (وحينها يكونُ الرِّثَاءُ مُجَرَّدَ مَرَاسِمِ وداعٍ)!

كَتَبْتُ هَذِهِ القَصيدةَ في رِثَاءِ أُمِّي بعدَ أَنْ بَدَأَ رحيلُهَا (بسَلْبِ الذَّاكِرَةِ)، وقبْلَ أَنْ يَتَوَفَّاهَا اللهُ (بالمَوْتِ)، وكُنْتُ أَكْتُمُ هَذِهِ المَشَاعِرَ عَنْ أبي وإِخْوَتي، ولَمْ أُصَارِحْ أَحَدًا بكِتابةِ هَذِهِ القَصيدةِ إلا بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّي رَحِمَهَا اللهُ، وقَدْ يَسْتَغْرِبُ القارئُ مِنْ هذا الفِعْلِ الذي قَدْ يُحْسَبُ مِنْ بَابِ الفَأْلِ السَيِّءِ، فَقَدْ كُتِبَتْ هذه القصيدةُ في ديسمبر 2007، أيْ قبلَ الوَفَاةِ بحَوالَيْ أرْبَعِ سَنواتٍ، ولكنَّ الحَقيقةَ أنَّ الشَّاعِرَ لا يَمْلِكُ أنْ يَمْنَعَ القصيدةَ أو أنْ يسمحَ لها، فَهْيَ أَشْبَهُ بطُلُوعِ الشَّمْسِ أو غُرُوبِهَا، فهي كالظَّوَاهِرِ الكَوْنيَّةِ التي لا يستطيعُ الإنسانُ لها جَلْبًا ولا دَفْعًا، لذلك حينَ تَدَفَّقَتْ هذهِ القَصيدةُ لَمْ أَمْلِكْ سِوى أَنْ أَكْتُبَهَا، وقَدْ تَمَّتْ في حَوَالَيْ أُسْبُوعَيْنِ، وهو زَمَنٌ قياسِيٌّ بالنَّسْبَةِ لحَجْمِهَا .

مِنْ عََجَائِبِ مِا حَدَثَ لي أنَّني بَكَيْتُ أُمِّي كثيرًا في أَثْنَاءِ كتابةِ هَذِهِ القصيدةِ، ولكنني لَمْ أَبْكِ حينَ تَوَفَّاهَا اللهُ، ولَيْسَ ذلكَ بَقَصْدٍ مني في الحالتَيْنِ .

ولا شَكَّ أنَّنا في مجتمعاتنا العَرَبيةِ والشَّرقيةِ مَا زِلْنَا نَظْلِمُ النِّسَاءَ، نَظْلِمُ أُمَّهَاتِنَا وزَوْجَاتنا وأَخَوَاتِنَا وبَنَاتِنَا، نَظْلِمُهُنَّ بقَصْدٍ وبدونِ قَصْدٍ، ومِنَ المُمْكِنِ أَنْ نَظْلِمَهُنَّ ونَحْنُ نَظُنُّ أنَّنا نُحْسِنُ صُنْعًا، وأَنَّنَا نَتَقَرَّبُ بذلك إلى اللهِ، تَعَالى اللهُ عَنْ الظُّلْمِ عُلُوًّا كَبيرًا .

كَانَتْ أُمِّي رَحِمَهَا اللهُ مِنْ جيلٍ فريدٍ مِنَ النِّسَاءِ، جيلٍ دَيْدَنُهُ العَطاءُ، ووُجُودُهُ يَعْتَمِدُ على أَنْ يُسْعِدَ الآخرينَ، فَهي لا تَبْتَهِجُ إلا بإِسْعَادِ زَوْجِهَا وأبْنَائِها وأُسْرَتِهَا، فَكَانَ لها مِنَ اسْمِها أَكْبَرُ نصيبٍ، فهي “إِسْعاد”، وكانَتْ مَصْدَرَ إِسْعَادٍ لكلِّ مَنْ حَوْلَهَا .

شَاءَ اللهُ أَنْ يَمُدَّ في عُمُرِها، فَأَهْدَتْ من ثمارِ حكمَتِهَا ثَلاثَةَ أَجْيالٍ، فَرَبَّتِ الأَبْنَاءَ، والأَحْفَادَ، وبَعْضَ أَبْنَاءِ الأَحْفَادِ.

هَذهِ قصيدةٌ أُحَاوِلُ أَنْ أَرْثِيَ بهَا كُلَّ نساءِ الدُّنْيا، إِكْرَامًا لامْرَأَةٍ عَظيمةٍ … هِيَ أُمِّي …!

أَسْأَلُ اللهَ لَهَا الرَّحْمَةَ والمَغْفِرَةَ، ولكُلِّ الأُمَّهَاتِ …

عبدالرحمن يوسف

القاهرة     1/7/2012م