هل هم أغبياء؟

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 4-11-2018 م

هناك قواعد عامة في الحياة، متفق عليها بين البشر، إياك أن تصدق من يشكك فيها، منها – على سبيل المثال لا الحصر – ما يتعلق بالتعامل مع خصم أو عدو ما، تقول الحكمة: “لا تستهن بعدوك مهما كان”!

ولكن كثيرا من الناس ينسون أن لهذه الحكمة تكملة منطقية، تكملة ليست بحاجة إلى كتابة، إنها جملة مستترة في ذهن أي عاقل، ولكن بسبب أحداث هذا العصر المجنون ننساها.

تكملة الجملة السابقة: “ولا تعط عدوك من صفات القوة ما ليس فيه”.. هذه هزيمة نفسية، وهي بداية الهزيمة الحقيقية في واقع الحياة (وربما تكون نتيجة الهزيمة الواقعية)!

أي… لا تغرنك قوتك أو ثقتك بنفسك بأن تستهين بعدوك، أو لا تنظر لعدوك بما تتمنى أن تراه عليه، فتراه ضعيفا – رغم قوته – لأنك تتمنى أن يكون ضعيفا.

وفي الوقت نفسه… إذا رأيت عدوك ضعيفا، فإياك أن تنهزم نفسيا أمامه وتمنحه من صفات القوة ما ليس فيه.

أقول ذلك بمناسبة السؤال المطروح بسذاجة شديدة أمامنا اليوم… “هل المملكة العربية السعودية بهذا الغباء لكي ترتكب عملية اغتيال الشهيد جمال خاشقجي بهذه الطريقة الساذجة؟”.

* * *

لا بد أولا أن نعلم أن الفريضة الأولى في هذا الأمر هي “افهم عدوك”.. لا بد أن ندرس هؤلاء الذين استولوا على الدول العربية باسم الوطنية، وهم اليوم يبيعون كل شيء: الاستقلال الوطني، وثروات الأجيال القادمة، وكرامة الأمة، والأرض، والتاريخ، والمستقبل.

ومن خلال فهمنا لدولة مثل المملكة العربية السعودية، بإمكاننا أن نجيب بثقة: “لا… ليسوا أغبياء”!

المؤسسات الأمنية في المملكة متطورة، وتعمل بكفاءة عالية، ومن لا يعرف ذلك فهو مقصر في دراسة خصومه أو أعدائه (اختر ما شئت من اللفظين).

* * *

ولكن… هل كانت عملية اغتيال الشهيد جمال خاشقجي رحمه الله من صنع الأجهزة الأمنية تلك؟

الإجابة: “بالطبع لا”!

ما الذي حدث إذن؟

ما حدث ببساطة… أن غلاما معقدا نفسيا ولا علاقة له بالسياسة، اسمه محمد بن سلمان، وصل إلى موقع ولي العهد بنسبه لا بالكفاءة، وحين وصل همّش كل هذه المؤسسات، وأعاد هيكلتها بحيث يصبح ولاؤها له، فأقصى أصحاب الكفاءات، ووضعها في جيبه الشخصي، وأصبح مستشاروه مجموعة من أصدقائه الشخصيين الذين لا يفقهون أي شيء في أصول الحكم، ولا هم خبراء أمنيون، ولا يتميزون سوى بالغباء، والقدرة المذهلة على النفاق.

بهذه الطريقة ارتكبت جريمة الاغتيال!

لقد رتب “طال عمره” الجريمة هو وأصدقاؤه!

* * *

ماذا نستنتج من ذلك؟

عدة أشياء… أهمها:

أولا: إذا كان عدوك غبيا، ويتصرف بغباء كامل، ويثبت غباءه مرة بعد مرة… فإياك أن تمنحه ألقاب الذكاء مجانا.. إياك أن تعطيه هيبة الذكاء، بل تعامل مع الحقيقة التي أمامك، واستثمر غباءه وغروره، فكم قضى الغرور والغباء على دول عظمى.

تعامل مع عدوك الغبي وفق ما تراه بعينيك، لا تفترض فيه ذكاء أو قوة أو شهامة (أو العكس) لأنه كان يتمتع بهذه الصفات أو بعضها في الماضي.

لا تفترض أي صفة (إيجابية أو سلبية) في عدوك، بل ادرسه جيدا، ولا تكذب عينيك لتصدق افتراضات لا دليل عليها.

ثانيا: إذا كان عدوك غبيا وفي طريقه لتدمير نفسه فإياك أن تقاطعه.. إياك أن تقف في طريقه.. إياك أن تقدم له نقاطا مجانية في المعركة، أو تتفضل عليه بنصائح تؤخر سقوطه… اتركه… دعه لنفسه… وإذا لم تتمكن من التعجيل بسقوطه، فانشغل على الأقل بالإعداد لما بعد سقوطه، لكي تنقذ الأمة من حالة الفراغ التي يهدد بها.

ثالثا: أفضل وأقصر طرق القضاء على الدول هو الاستبداد!

راجع قصة العراق الحزينة، وكيف كانت دولة من أفضل الدول في العالم في أنظمة الصحة والتعليم والطرق… الخ، وبسبب حاكم فرد، قرر أن يخوض مجموعة من الحروب بلا أي معنى أو سبب، وقرر تدمير النسيج الداخلي للشعب، فقتل الشيعة والأكراد بشتى الطرق… وبالتالي تحول العراق إلى هذا الكيان المحطم الذي نراه اليوم.

رابعا: إذا كان عدوك غبيا… فلا تقتد به!

إن الاستبداد كما يمكن أن يكون أسلوبا في إدارة الدولة، فإنه يمكن أن يكون أسلوبا في إدارة الأحزاب، والجماعات المعارضة، والتحالفات السياسية.

لذلك لا ينبغي أن تدار الحركات المعارضة بالطريقة نفسها التي تدار بها أنظمة الاستبداد العربية، فيتم تهميش أصحاب الكفاءات، وتصعيد أصحاب الولاءات، ويتم إقصاء المفكرين والعلماء، وتقريب المتزلفين والمنافقين.

خامسا: الأنظمة التي نحاربها تعتمد على أشخاص من في السلطة.

الدول المتقدمة لا تتأثر كثيرا بمزاج من هم في السلطة، فهناك ثوابت، وهناك مؤسسات، وهناك استراتيجيات من الصعب الانقلاب عليها.

أما دولنا المتخلفة، فالكلمة فيها لمزاج المسؤول الأول، لذلك لا بد من دراسة نفسية هذا المسؤول، ومعرفة مزاجه، ومعرفة من يثق فيهم، ومعرفة الأسلوب الذي اختاره لإدارة شؤون الدولة (الدولة هنا كلمة مجازية بالطبع).

* * *

كلمة أخيرة: حادث المنيا الذي قتل فيه مواطنون مصريون أقباط في طريقهم للصلاة في دير الأنبا صموئيل فى المنيا؛ دليل جديد على أن مصر أصبحت دولة سادة وعبيد.

الأمن للسادة، والموت للعبيد!

وفي هذا الإطار، أعلنت قوات الأمن تصفية بعض “الإرهابيين المتورطين في حادث المنيا”، بلا تحقيقات، وبلا أدلة، وبلا أي مجهود في تغطية الجريمة الثانية التي تغطي الجريمة الأولى، وكل ذلك في إطار تغطية الجريمة الكبرى… جريمة الاستبداد!


رابط المقال على موقع عربي 21

المقال السابق

ملائكة وشياطين

المقال التالي

عبدالرحمن يوسف الشاعر والسياسي المصري لـ "الشرق" 4-11-2018م

منشورات ذات صلة
Total
0
Share