مصالحتنا واصطفافنا أمام مصالحتهم واصطفافهم

غريب أمر الحياة في مصر، ترى فصول السنة السياسية كلها في أسبوع واحد، وأحيانا تراها في طلعة نهار.

جيش مصر شعاره (مسافة السكة)، وبعدها ترى جيش مصر (لمصر فقط)، وبعدها بيوم ترى جيش مصر عاد مرة أخرى (مش حانتخلى عن اخواتنا حتى لو هما ما قدروش يساعدونا !)، ولله في حكم العسكر شؤون !

ترى عقلاء الصف الثوري يطالبون بالاصطفاف الوطني، وترى مؤيدي الانقلاب العسكري يطالبون بالاصطفاف الوطني أيضا، ترى أبواقا تصرخ من أجل المصالحة الوطنية، وترى خصومهم في العقيدة السياسية يطالبون أيضا بالمصالحة الوطنية.

لكل تلك الأسباب … لا بد من وقفة، تضبط فيها المصطلحات، وتوجه فيها البوصلة إلى القبلة الصحيحة، لكي يتضح الحق من الباطل، ويعرف المحسن من المسيء.

هناك اصطفافان … اصطفاف أهل الحق بنيانا مرصوصا أمام الباطل، واصطفاف أهل الباطل الانتهازيين واللصوص وشذاذ الآفاق خلف أهل الحكم السفاحين من أجل نهب البلاد، وإذلال العباد، ولا تستغرب إذا زينوا إفكهم بشعارات الوطنية، فهؤلاء هم من ينطبق عليهم قوله تعالى \”وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَتُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّيَشْعُرُونَ\”.

وهناك أيضا مصالحتان … مصالحة يدعو لها القاتل وأنصاره، يتم فيها تمكين الحكم العسكري من رقاب الشعب، وإذلال سائر المصريين، والمتاجرة بالدماء والأعراض والسمعة الشخصية والأسرية لأشرف أهل مصر … ومصالحة أخرى يدعو لها أنصار العدل والمستضعفين، تعيد الحقوق لأصحابها، وتنتصر للدولة المصرية بتطبيق القانون وبتحقيق القصاص العادل.

اصطفافنا– نحن الثوريين –هو أن يجتمع سائر الثوار من سائر الفصائل والاتجاهات والأحزاب خلف راية واحدة، وقيادة شبابية راشدة، لا هدف لها سوى استعادة المسار الديمقراطي، وبذلك تستعاد الشرعية (شرعية الثورة وما نتج عن اندلاعها)، وبذلك تتحق أهداف سائر الحركات الاجتماعية والسياسية والطلابية والعمالية والشبابية من كل المشارب والاتجاهات.

الاصطفاف الوطني الثوري يعني أن يعترف الجميع بأخطاءهم وتقصيرهم، وأن نتعلم أن الاستغراق في الحديث عن أخطاء الماضي والهمز واللمز والتعيير والتحقير … كل ذلك ليس أكثر من فخ، يحفره، ويعمَّقَهُ، ويرَسَّخَهُ أجهزة أمنية تعمل آناء الليل وأطراف النهار لتمنع لحظة الاصطفاف الثوري.

في ذكرى السادس من إبريل، وفي ذكرى ثورة يناير، وفي ذكرى محمد محمود، ومجلس الوزراء، وفي ذكرى رابعة والنهضة وأخواتها من المجازر، ستجد خطابا يحاول بلا هوادة أن يوقع الضغينة والبغضاء بين الثوار.

إنه خطاب لا يرى في أي ذكرى سوى فرصة لنكأ الجراح، وتفريق الصفوف، وتمزيق الرايات، ومضاعفة الأحقاد.

هذا الخطاب ينتهجه بعض الموتورين، أو اللجان الإلكترونية الموجهة من أجهزة الأمن، أو من بعض المخلصين قليلي الحكمة، إنهم (ألتراس) لأفكارهم، وهم منتشرون في سائر التيارات، يؤيدون التيار المدني فيسبون سائر من يختلف معه، يتحيزون للإخوان فيخونون سائر المختلفين معهم، وفي نهاية الأمر يجلس السادة ضباط الأمن الوطني في مكاتبهم المكيفة يشاهدون صراع الديكة الذي يجري – وهم من يصنعه – وهم يضحكون بانتشاء، فهذا غاية مرادهم لكي يطمئنوا أن لا ثورة ستنجح !

بينما الخطاب الرشيد هو خطابالتذكير بالمشتركات، والاحتفاء بالتضحيات، والتأكيد على أن جميع الاتجاهات كانت تقف صفا واحدا، وأن الخلافات والخيانات لا يمكن أن يوصم بها تيار كامل، أو جيل كامل، أو جماعة بكاملها، أو حزب بسائر أعضاءه، أو اتجاه بكل المتعاطفين معه.

هذا خطاب المخلصين العقلاء، الذين يعلمون جيدا أن العدو المشترك سوف يجمع الكل في زنزانة لا ريب فيها، وأن الرصاص لا يفرق بين إسلامي وليبرالي، كل الثوار أمام الرصاص سواء.

لو أمعنت النظرستجد أشخاصا لا هم لهم سوى سبّ حركة السادس من إبريل أو جماعة الإخوان أو الأحزاب المدنية أو البرادعي أو مرسيوغيرهم، ستجدهمجالسين (للساقطة واللاقطة) كما يقول المثل المصري … هؤلاء دائما من الأصناف التي ذكرت، وهؤلاء يشعلون نارا تمنع الاصطفاف الوطني الحقيقي، بعضهم عن عمد، وبعضهم يخدمون الفرقة وهم لا يشعرون.

في غزوة أحد … عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت النتيجة هزيمة حقيقية كاملة، سقط فيها من كبار الصحابة، ومن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تسامح الجميع برغم أن النوايا لم تكن خالصة لله، وذلك بنص القرآن، أي أن من ترك مكانه من الرماة لم يتركه اجتهادا من أجل عزة الإسلام والمسلمين، بل تركه حبا في الدنيا، والله سبحانه ذكر ذلك نصا في كتابه الكريم وقال : \”  وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ  \” !

واستمرت الحياة بعد أحد، وانتصر المسلمون، وفتح الله لهم بلاد الدنيا !

هناك من يُصِرُّ على أن نقف عند حدود (محاسبة الرماة) على حبهم للدنيا، ومعاقبتهم على عصيان أمر الرسول الكريم، وتعييرهم بمن سقط من الشهداء بسبب تخاذلهم، وكلما حاول شخص أن يعلن توبته نرى من ينبري له : (أتريد أن تتوب بعد أن أخبرنا الله أنك تحب الدنيا؟ بم ستنفعنا توبتك؟ هل ستعيد لنا حمزة سيد الشهداء؟ والله لا نصالح من ذمهم الله في كتابه الكريم وفضحهم، والله لا نضع أيدينا في يد من يحبون الدنيا أبدا) !!!

هؤلاء المتنطعون لو جاءهم خالد بن الوليد تائبا مسلما لقتلوه وصلبوه، ولقالوا له \”بسببك قتل مصعب بن عمير، وسعد بن الربيع، وعمرو بن الجموح، وبسببك هزمنا في أحد، وبسببك فقدنا أحبابنا … لا نصالحكم أبدا … ولا نقاتل إلى جواركم … أنتم (بعتونا في أحد)\” !!!

لقد جاء خالد بن الوليد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك، فقبل إسلامه، وأكرمه، ولقبه بسيف الله المسلول، وولاه قيادة الجيش في بعض المواقع، وكان موضع ثقة الخلفاء من بعده.

يحدث ذلك النزاع … وأبو جهل يجلس في مكة آمنا مطمئنا … يعبد أصنامه ويعظمها، يطوف بالكعبة، ويذبح القرابين !

العبرة ليست بما حدث … بل بما سيحدث !

ماذا يضيرنا إذا اجتمعنا جميعا تحت راية واحدة (ونحن لا ننشد إلا الحق)؟

ماذا يضيرنا إذا اتحدنا وفتحنا صفحة جديدة أمام أهل الباطل؟

يا شباب الثورة من سائر الاتجاهات : هل رأيتم مشهدا أسوأ من ذلك؟

هذا اصطفافنا … اصطفاف من يرفض أن يرى أبا جهل يعبد أصنامه أمام الكعبة، بينما باب التوبة مفتوح، وفرصة التصحيح متاحة (بشروط طبعا) !

أما مصالحتنا … فمعناها أن تبدأ مصر مرحلة انتقالية جديدة، (بعد أزاحة ومحاسبة وجوه عكرة بعينها نعلمها جميعا)، على أساس برنامج واضح للعدالة الانتقالية، وعلى أساس طريق سليم يحقق العدالة الاجتماعية.

هذه المصالحة لن تحدث باستئثار مؤسسة من مؤسسات الدولة بكل شيء، ولا بإقصاء تيارات بعينها، ولا باستحواذ أي قوة سياسية لوحدها، بل بتضافر سائر الشرفاء من أجل إعادة المسار الديمقراطي، ومن أجل تحقيق بناء دولة القانون.

إن شباب الثورة اليوم مطالبون باستعادة وتذكر ميثاق الشرف الأخلاقي الذي صدر من بيان القاهرة، وتقبلته سائر القوى بالخير، فعدونا واحد، وهو متربص بنا، ويعمل على تفريقنا، ولن يستطيع أحد هزيمة هذا العدو وحده، وهذا العدو يعلم ذلك، ويضع سائر جهده في تفريقنا، وبعضنا يعينه على ذلك من غفلته.

يا شباب مصر تذكروا هذا الميثاق :

\”منذ 11 فبراير أخطأ الجميع؛ كلنا أخطأنا، وخطأ الكبير كبير، وخطأ الصغير صغير، والنقد الذاتي له وقته المناسب الذي يؤتي فيه ثماره في أوانه، ويصب في عافية الوطن ومستقبله.

لكل منا روايته للأحداث، ورؤيته للتواريخ الملتبسة، وقد اتضح أن غالبية الروايات غير دقيقة، وأن خطط أجهزة التخابر نجحت في إشعال الفتن بين الجميع.

من استبعد الآخرين فقد استبعد نفسه، ومن استوعب الآخرين فقد استوعب لوطنه.

رفقاء الأمس في ثورة 25 يناير في الـ18 يومًا، يحتاجون إلى استلهام تلك الروح (روح ميدان التحرير) بعيدا عن التحيز للأفكار والجماعات والأحزاب، أو الانحباس في المواقف المسبقة.

نحن نرفض التكذيب والتخوين أو نسبة الغش وسرقة الثورة أو عقد الصفقات السرية أو عدم الشفافية أو الاستحواذ على السلطة أو المناكفة أو المكايدة السياسية أو انتهاج العنف أو تبريره، كل تلك الأمراض نرفضها، ونقاومها، ولا نسمح بها أسلوبا للتعامل بيننا.

إن الانشغال بالهواجس المتغلغلة في عقول بعض القوى، والتي تحولت عند البعض إلى حالة نفسية جماعية أمر ينبغي التخلص منه، وهو أعقد عثرات المرحلة.

والخروج من هذه الحالة الجماعية يتطلب منا معالجتها بالدقة الواجبة حتى يمكن بناء عناصر ثقة جديدة متبادلة بين رفقاء الأمس الذين صاروا فرقاء.

ومن ثم يلتزم المنضمون لبيان القاهرة بهذا الميثاق الأخلاقي،بما فيه من قواعد والتزامات تقوم على الشرف والأخلاق الإنسانية والوطنية والثورية الراسخة :

1- استعادة الثقة المتبادلة والشاملة بين الثوار هي أولى الأولويات، والحوار هو أساس استعادتها، وأساس العمل واستمرار التنسيق.

2- التعددية مبدأ وقيمة، لقد خلقنا الله مختلفين، واختلافنا تنوع، واختبار الحياة هو إدارة هذا الاختلاف، لذلكنؤكد على حق الجميع في الوجود والمشاركة، ولذلك نرفضكل معانى وأشكال الاحتكار والاستبعاد، ولا نسمح بتحول الاختلاف إلى تناحر يستفيد منه أعداء الثورة.

3- تقديم وتمكين الشباب للاستعانة به وبقدراته لا يأتى إلا بالتواصل الفعال بين الأجيال، تواصل التكامل لا تنابز الصراع.

4- كل القوى الثورية شاركت في الثورة، وقدمت شهداء وتضحيات، وليس لأحد أن يمن على أحد بدوره في ثورة يناير.

الثورة لم يقم بها فصيل واحد، ولا تيار واحد، ومانجحت إلا بفضل الحاضنة الشعبية التي احتضنت شرارة الشباب وحولتها إلى ثورة شعبية جامعة، وبالتالي … يجب حل التعارض بين الرؤية الخاصة بكل فصيل، والرؤية الوطنية العامة، والأصل والميزان الحاسم هو المصلحة الوطنية العليا.

5- رفض كل دعوات العنصرية، والطائفية، والتمييز الطبقي، واللجوء إلى العنف أو تبريره، والتعصب الأعمى، ونفي الآخر، والتحقير، والتكفير، والتخوين، والتشكيك، والإهانة، والتشويه، والشيطنة، وتقديس الفرد أو الجماعة أو المؤسسة، أو الحركة أو الحزب وما إليه.

6- وقف كل الحملات الإعلامية المتبادلة بين القوى السياسية الثورية، حرصًا على عملية اصطفاف سوية، تقوم على مواجهة عودة الاستبداد العتيد، والفساد المديد.

نرحب بالنقد البناء العاقل، ونرفض الهجاء والقدح الذي يوغر الصدور، ويفرق الصفوف.

7- يتم تشكيل أمانة متابعة الخطاب المتبادل بين هذه القوى، والتي توجه الأداء بشكل حال وعاجل لتلافي ما يقع فيه البعض مما يؤجج الخلاف.

8- يتم تشكيلفريق تصالح من الشخصيات المتوافق عليها، لحل مثل تلك الخلافات إذا صعب تخطيها من خلال لجنة متابعة الخطاب.

9- تقوم أمانة التنسيق بصياغة القواعد الأخلاقية بشكل إجرائي محدد، على أن يكون كل خطاب وحركة ملتزمًا بإعلان المبادئ التأسيسي الجامع، المتفق عليه من قبل القوى، والذي سوف نطرحه للحوار قريبا\”.

عبدالرحمن يوسف

المقال السابق

المصالحة بالإعدام !

المقال التالي

السيف والذبابة

منشورات ذات صلة
Total
0
Share