\”فَشِّةْ غِلْ\” !

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ23-01-2016

شعور الإنسان المضطهد بالقهر يدفعه إلى فعل أشياء قد لا يتخيل أحد مداها، بل إن المرء إذا شعر بالاضطهاد قد يقدم على أفعال لم يكن يتصور هو شخصيا أنه قد يقترب منها بأي حال.

حاجة المضطهد إلى شفاء الغليل أمر فطري، الإنسان المظلوم المكلوم يحتاج أن (يفِشّ غِلّه) كما نقولها بالعامية المصرية.

المشكلة حين تتحول الحياة إلى مجموعة تصرفات لا هدف لها ولا طائل من وراءها إلا (فَشِّةْ غِلْ) !

لقد قام المصريون بثورة عظيمة في 25 يناير 2011، ونحن اليوم نعيش أجواء الذكرى الخامسة لهذه الثورة العظيمة، ولكننا غير قادرين على الاحتفال بها، لأننا عاجزون عن تحقيق أهدافها.

يشارك الملايين في هاشتاج (أنا شاركت في ثورة يناير)، ولكننا جميعا نعلم أنها ثورة لم تكتمل، ويظن اليائسون أنها ثورة فاشلة، والحقيقة أنها قد خسرت جولة، وأنه ما زال هنالك جولات.

لقد نجحت هذه الثورة لأن المصريين اتحدوا جميعا من أجل إسقاط الطاغية المخلوع اللص المدعو حسني مبارك، وحين اتحدوا أسقطوه في أسبوعين، وكان انتصارا بالضربة القاضية، وذاق المصريون طعم الحرية للمرة الأولى، ثم حدث بعد ذلك ما حدث، وأخطأ الجميع، وتسبب ذلك في حدوث الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، ونتج عن ذلك نظام مسخ، لا يعرف سوى القتل والقهر والسرقة والتزوير، ويرتكب سائر هذه الموبقات بفجاجة لا مثيل لها في تاريخنا القديم والحديث، وارتكب هذا النظام سلسلة من المهالك أدت إلى بقاءه بلا غطاء شعبي يذكر، وفشل في تحقيق أي وعد من وعوده، وأصبح الناس في مصر يعيشون في ضنك كامل متكامل … ولكن – وللأسف الشديد – لن يسقط هذا النظام إلا إذا اتحد الثوار.

ما سبب فشلنا في إسقاط هذا النظام؟

لأننا نعمل في حياتنا كلها بأسلوب (فَشِّةْ غِلْ) !

خطابنا الإعلامي (فَشِّةْ غِلْ)، ومسارنا السياسي (فَشِّةْ غِلْ)، وعلاقاتنا الاجتماعية (فَشِّةْ غِلْ)، حتى علاقاتنا الدولية (فَشِّةْ غِلْ) !

لا يهم أن يسقط نظام \”سيسي\” المهم أن (أفش غلي) في هؤلاء الخونة الذين باعونا في محمد محمود من أجل مقاعد في مجلس الشعب المزعوم !

وعلى الجانب الآخر ستجد من لا يهتم بإنهاء هذا النظام قدر اهتمامه بـ(فَشِّ غِلِّه) من هؤلاء الذين يقولون إننا بعناهم في محمد محمود، فيشمت فيهم حين يراهم وقد ذهبت رهاناتهم على العسكر هباء منثورا !

ستجد أداء الإعلام المقاوم للانقلاب مجرد (فَشِّةْ غِلْ)، فالرسالة التي ترسلها القنوات، والصحف، والمواقع (وكثير من كبار الكتاب) رسالة مشوشة، لا هدف لها سوى (فَشّ غِلْ) من يرسلها.

برامج تذاع يوميا لكي يخرج المذيع بعد الحلقة وقد (فَشّ غِلّه)، ويراها المشاهد فيشعر بالأمر ذاته، وكل ذلك على حساب وعي الناس، وعلى حساب حسم المعركة.

الإنسان العاقل لا يمكن أن يقبل إلغاء عقله وأن تحركه هذه الشهوة الطفولية الساذجة، الإنسان الذكي يُعمِلُ عقله، ويحدد لنفسه هدفا، ثم يحدد لنفسه مسارا لتحقيق هذا الهدف، ثم يضع خطة (احتياطية) في حالة فشل المسار، ثم يضع (خطة طوارئ) لكي لا تتعقد أموره إذا وقع أمر لم يكن في الحسبان.

أما الإنسان الساذج فيترك نفسه ريشة في مهب الأعاصير، ويستنسخ تجاربه الفاشلة ألف مرة، وإذا ناقشه أحد في ذلك اتهمه بتفريق الصف، أو يبدأ بفلسفة فشله، فيحتج بالقضاء والقدر، ويتحدث عن ضرورة الصبر على الابتلاء، ويحول الفشل نجاحا لا مثيل له، لكي يبرر لنفسه ولأتباعه تكرار هذا الفشل (النجاح) !

الإنسان الأحمق هو من يترك حياته وحياة وطن كامل في مهب (فَشِّةْ غِلْ)، يترك نفسه لمشاعر الشماتة في الآخرين، ولا يهتم بجدوى أو عواقب هذه الأفعال الصبيانية، ولا يهتم بمدى استفادة عدوه الكبير الحقيقي من هذه السفاسف.

عدونا تمكن من احتضان غالبية أعداءه (في لحظة ضعفه) من أجل أن يهزم عدوه الأكبر (وهو الثورة نفسها)، ونحن اليوم لا نكاد نحدد سلم أولويات الأعداء، من هو العدو الأول؟ ما هو الخطر الأكبر؟ كيف ننتصر في أكبر معركة مرت علينا في تاريخنا الحديث؟ ما هو النصر أصلا؟

لقد خلق الله البشر مختلفين، ومن العبث إلغاء اختلافات الناس، قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، ولكن الاستسلام للاختلافات السطحية، أو للعداوات الشخصية، أو للتقلبات المزاجية، أو للغرائز البدائية … كل ذلك عبث أكبر، خاصة إذا كان الثمن هو مستقبل الوطن، والأمة، كل ذلك إجرام إذا كان على حساب الحرية والدم والعرض والمال.

نحن أمام نظام لا يملك من مقومات البقاء إلا شيئين، الأول : تقديم التنازلات للخارج (حتى ولو كان ذلك بالخيانة الصريحة).

الثاني : خيبة خصومه !               

وخيبة خصومه تعري الجميع، وتطيل عمره لأن الجميع يرى أن لا بديل !

لنكن صرحاء … هذا النظام المسخ الموجود في السلطة يعتمد علينا نحن لكي يستمر، ولولا سذاجتنا وإصرارنا على أن ندير معركتنا بمنطق (فَشِّةْ غِلْ) لما تمكن من البقاء طوال هذه المدة.

إن هذا الأسلوب في إدارة هذه المعركة يفرغ الطاقات بالتدريج من منطقة التأثير إلى منطقة اللاتأثير، وتصبح كل أفعالنا مع الوقت لا قيمة لها إلا تفريغ طاقات انفعالية لا أكثر.

سيسقط هذا النظام بالشباب، وبقدرتهم على تجاوز أخطاء السابقين، وبقدرتهم على إدارة المعركة بالحكمة التي تتعالى على مشاعر الانتقام والشماتة السطحية.

سيسقط هذا النظام قريبا … بنا أو بسوانا … سيسقط سواء كنا مستعدين أو غير مستعدين، وسيدفع الشعب ثمن تقصيرنا في إعداد البديل، وربما يطول طريق ما بعد السقوط … كما طال طريق السقوط.

آن الأوان لإنهاء هذا العبث … نسأل الله السلامة !

رابط المقال على موقع عربي 21 

المقال السابق

برلمان الثورة المضادة

المقال التالي

عبد الرحمن يوسف ضيف قناة TRT التركية 25 يناير 2016

منشورات ذات صلة
Total
0
Share