عيوبنا !

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 5-1-2020 م

لا يكاد ينكر عاقل الآن ضرورة التغيير السياسي في مصر والمنطقة، فقد اتضح للجميع كيف يحكم غالبية أوطاننا مجموعات من قليلي الكفاءة، عديمي الوطنية، وهم لا يأتمرون إلا بأمر أعداء الوطن.

ولكي يحدث ذلك لابد من تضافر جهود الشعب المصري ونخبته كما رأينا سابقا في ثورة يناير.. ولكن هل تستطيع النخب المصرية قيادة الشعب مرة أخرى؟

لكي يحدث ذلك لابد أن تعرف وتعترف هذه النخبة بعيوبها، وهذه محاولة لسرد أهم هذه العيوب.

*       *       *

أولا: الجهل

إنها الحقيقة !، نخبنا تعاني من جهل عجيب أسبابه تتلخص في أمرين.. الأول انهيار العملية التعليمية في مصر.

والثاني ضعف التثقيف السياسي في الأحزاب والجماعات.. وهذا أمر طبيعي في مجتمع يمنع ممارسة السياسة أصلا، وتعتبر السياسة فيه مرادفا للمشاكل بل المصائب.

العاملان يندمجان معا بحيث يصبح من المستحيل تحقيق تثقيف سياسي عميق مع أشخاص غالبيتهم العظمى من خريجي عملية تعليمية معطوبة، ولو حاولت أي جماعة سياسية أن تقوم بذلك سيكون ذلك مخاطرة وتنفيرا للراغبين في الانضمام.

لذلك غالبية النخب السياسية تعاني من سطحية في الشكل والمضمون، فلا تكاد تجد أحدا قادرا على كتابة مقالة منطقية في أي موضوع، أو على التحدث بلغة سليمة لدقيقة أو دقيقتين.

رأينا يساريين لا يعرفون معنى فكرة الاشتراكية، ولا تاريخ الفكرة، ولا منظري الفكرة.. ورأينا إسلاميين لا يعرفون من الإسلام إلا أفكارا شديدة السطحية، وكل يعتبر رأيه هو الدين وما سواه خطأ أو خطيئة، وفي بعض الأحيان كفرا، ورأينا ليبراليين لا يعرفون معنى الليبرالية (أتحدث عن المعنى النظري البحت) !

نحن أمام نخب لا تعرف الأفكار التي تنتمي لها (أو التي تزعم أنها تنتمي لها)، فضلا عن أن تعرف أفكار الآخرين المختلفين معها والمخالفين لها، ناهيك أن تعرف ما يعج به العالم من أفكار.

*       *       *

ثانيا: القابلية للابتزاز

من أخطر عيوب النخب السياسية الحالية أنها قابلة للابتزاز بمنتهى السهولة، وبدون جهد يذكر، وهو ما يفتح بابا للمزايدات لا ينتهي، والمتضرر هو المجتمع، والحياة السياسية، والدولة، والمؤسسات !

حين فتح باب الابتزاز بتطبيق الشريعة بين السلفيين والإخوان بعد ثورة يناير، دفعنا جميعا الثمن، وحين فتح باب المزايدة في فترة (جبهة الإنقاذ) قبل انقلاب الثالث من يوليو، كانت النتيجة سلسلة من الأحداث التي أدت في النهاية إلى تسليم مصر إلى العسكر بلا أي شروط، ووسط تصفيق جزء من الشعب، وعلى دماء جزء آخر !

والآن.. حين يفتح باب المزايدة الوطنية بشأن ما يحدث في ليبيا.. سندفع جميعا الثمن.. ولا أحد يدري ما الثمن الذي يمكن أن تدفعه مصر على وجه الدقة في ليبيا.. ولا أحد يعرف ما علاقة (الوطنية) بالموضوع الليبي أصلا، فنحن لا نعرف ما هي استراتيجة الدولة المصرية في الشأن الليبي !

غالبية النخب السياسية لا تستطيع أن تتخذ مواقف واضحة في الأزمات الكبرى، فهي قابلة للابتزاز الفردي والجماعي.. وهي عاجزة عن الجهر برأيها والصبر عليه حتى يتضح بعد ذلك بأيام، أو أسابيع، أو شهور أو سنوات.. صحة هذا الرأي.. فترى الغالبية تسلك الطرق السهلة بركوب الموجة، وحين تقع الكارثة.. لكل حادث حديث.

سيقول قائل.. إن الحياة السياسية بطبيعتها تجعل كل من فيها قابلا للابتزاز.. والحقيقة أن القابلية للابتزاز موجودة عند كل الجماعات والأحزاب في العالم كله، ولكن هناك حدود، هناك مصالح وطنية عظمى لا ينبغي التنازل عنها، وهناك ثوابت في كل فكرة أو أيديولوجية لا يمكن أيضا التفريط فيها.

*       *       *

ثالثا: فقر الحلول العملية

غالبية نخبنا لا تملك أي برامج عملية لحل مشاكل المجتمع.. ومردّ ذلك لأمرين.. الأول الجهل بحقيقة وحجم المشاكل.. والثاني عدم الممارسة التنفيذية.

أما الجهل بحجم المشاكل المجتمعية فهو أمر طبيعي في دولة يعتبر فيها (جمع المعلومات) جريمة أمن دولة، ومن الممكن أن تودي بصاحبها إلى سجن سحيق، مع غرامات لا طاقة لبشر بها (في جميع عصور الدولة المصرية كان جمع المعلومات محرما على أي مؤسسة، بما في ذلك كثير من المؤسسات التابعة للدولة نفسها).

الدولة المصرية منذ عشرات السنين تتعامل مع (المعلومة) على أنها حق مكتسب لأجهزة الأمن فقط، وليت هذه الأجهزة كانت تفعل أي شيء بما تجمعه من معلومات، بل كانت تكدسها، بلا تحليل، والأخطر من ذلك أن هذه المعلومات كانت دائما تصل إلى أعداء الأمة المصرية بكل سهولة !

أما مسألة الممارسة التنفيذية فهو أمر ممنوع في أوطاننا، فديدن دولة العسكر التي تزور الانتخابات منذ عشرات السنين، أن لا تولي أي مسؤولية في دولاب الدولة إلا لأهل الثقة من العساكر، وتقصي الغالبية العظمى من المتخصصين، وتعادي المخلصين من أبناء البلد الوطنيين الحقيقيين، وتضعهم في السجون أو المنافي.

*       *       *

رابعا: العجز عن العمل الجماعي

غالبية الأحزاب والجماعات يمثلها فرد، أو مجموعة (في الأغلب محدودة العدد والقدرات)، هي (شلّة) بالمعنى الأدق.

شأن المعارضة في ذلك شأن الدولة المصرية الاستبدادية التي لا ترى إلا الزعيم الملهم.

العجز عن العمل الجماعي ينتج عنه العجز عن تكوين (تحالفات سياسية) مؤثرة، فتظل الحياة السياسية يحركها مجموعة من الجهلة، يسهل ابتزازهم، وهم عالة على المجتمع لا يعرفون مشاكله ولا يستطيعون حلها، ولا يستطيعون أن يتعاونوا من أجل سدّ كل أوجه الخلل السابقة.

هل هناك علاج لهذه العيوب؟

بالطبع هنالك علاج.. خلاصته الإحلال والتجديد !

مصر تملك ثروة من شباب واع، وهو مؤهل للقيادة، ويستطيع أن يَتعلم، وأن يُعلم، بل إن هنالك كوادر على مستوى عال من العلم بالفعل.

وهذا الشباب بإمكانه أن يعمل بشكل جماعي، وخبرة هؤلاء منذ اندلاع ثورة يناير، والأثمان الفادحة التي دفعت تجعلهم مؤهلين لاتخاذ المواقف الصحيحة دون خضوع لابتزاز.

والحل العملي الآن.. هو أن تتنحى النخب السابقة بعيوبها التي لا يكاد نجد لها علاجا، وأن يتقدم الشباب الذين يمكنهم أن يصبحوا أصحاب تجربة عصرية منفتحة.

مشكلة هؤلاء الشباب أنهم لا يملكون أي موارد تؤهلهم لبدء مشاريع وطنية تنقل مصر النقلة المطلوبة، وهذه هي مشكلتنا الكبرى الآن، من يملك المشروع الوطني الجامع لا يملك الموارد، ومن يملك الموارد مشروعه ذاته (فردا كان أو جماعة) !

عبدالرحمن يوسف

رابط المقال على موقع عربي 21

المقال السابق

في نهاية العام

المقال التالي

الوطن العربي.. الحاكم والمحكوم

منشورات ذات صلة
Total
0
Share