شيرين أبو عاقلة وآل سعود

لم يكن عبدالعزيز آل سعود وهو يؤسس الدولة السعودية الثالثة متفوقا على القبائل الأخرى بكثير عَدد أو عُدد، ولم يكن الدعم الإنجليزي ليضمن له تأسيس الدولة، وحتى لو كفاه لتأسيس دولته.. فإنه قطعا لا يكفيه لتوسيع حدود تلك الدولة حتى تبتلع غالبية الجزيرة العربية، وأجزاء من اليمن كما هو الحال اليوم.

كان يتوسع وينكمش، ووقوف الانجليز معه لم يكن مضمونا، فقد وقفوا مع غيره، ومن الممكن أن يبيعوه.

لقد فرض سيطرته على الجزيرة بضمان ولاء قبائل من البدو، وذلك بتقديم الولاء الديني على الولاء القبلي، فاخترع نظام “الهجرات”، وهي عبارة عن مستعمرات في الصحراء، لا هدف لها سوى تعليم هؤلاء البدو العلم الشرعي، مع إعطاء المال للطلبة الذين يحضرون هذه الدروس.. كانت تسمى “الهجرة”.. تيمنا بهجرة المهاجرين إلى الأنصار، أي أنه من البداية زرع فكرة تكفير الآخر، وكأن دخول هذه الخلوات الدينية شكل من أشكال اعتناق الدين الحقيقي، وهجرة أرض الشرك، فهم يتركون ديار الكفر إلى ديارالإسلام، تماما كما فعل الرسول عليه السلام وأصحابه حين هاجروا من مكة إلى المدينة !

في هذه الخلوات كان يعلمهم دينا محرفا غير دين الإسلام، لقد اختار من الإسلام وانتقى، وغير أولويات الشريعة إلى أولويات تضمن له بسط ملكه، لقد زرع فيهم المنهج الخبيث المنحرف الذي اخترعه من يدعونه الإمام محمد بن عبدالوهاب.

وكان عبدالعزيز يقصد ويتعمد أن يطلب هؤلاء العلم الشرعي دون تعمق، ودون معرفة حقيقية راسخة، كان يعلمهم القشور التي تضمن ولاءهم له بصفته “ولي الأمر الشرعي” الذي لا يجوز الخروج عليه، وتجب طاعته في المنشط والمكره، دون أن يعطيهم ما يكفيهم من العلم ليتمكنوا من فهم غايات الإسلام الحقيقية، والمعنى الحقيقي للتوحيد، وهو عدم الخضوع لسلطان أحد إلا الله، حتى لو كان الحاكم، كما كان حريصا على زرع الجرأة على تكفير كل مخالف لهم، لكي يسهل قتل وقتال كل من يخالفه لأتفه الأسباب.

بهذه السياسة الخبيثة بدأت “الهجرات” في عام 1913م، وبعد عشر سنوات تقريبا أصبح لابن سعود عشرات الهجرات، استهدفت قبائل “عنزة”، و”شمر”، و”مطير”، و”عتيبة”، و”سبيع”، و”قحطان”، و”بنو هاجر”، و”المرّة”.. وغيرهم !

بهذه الطريقة امتلك عبدالعزيز “ميليشيا” على أهبة الاستعداد، ولاؤها له وحده بصفته الإمام الذي تجب طاعته شرعا، وهم جاهزون للحشد في زمن قياسي، وأصبح تفوقه على الآخرين كاسحا، إذ بإمكانه حشد ما يزيد على ستين ألف مقاتل خلال عدة أيام..

منافسوه يحتاجون إلى أسابيع لكي يجمعوا عُشر هذا الرقم !

لقد نجح بن سعود في تأسيس ما عرف في التاريخ بـ”إخوان من أطاع الله”، وكان هؤلاء الإخوان هم سيفه البتار الذي قطع به آلاف الرقاب، فالعالم كله إما مسلمون وإما كفار، وكل من يخالف الإمام (بن سعود) فهو كافر مهدر الدم.

قد يتساءل البعض: “ألم يكن في هؤلاء من يعرف الحق من الباطل؟ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟”

والإجابة: كلهم كانوا مخلصين، صادقين.. بل إن التاريخ يسجل أن أحدهم حين رأى الإمام (بن سعود) في موضع شبهة ينبغي أن يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر لم يتردد..

ولكن ماذا فعل هذا “المؤمن” “الغيور” على دين الله؟

تروي القصة أن واحدا من هؤلاء الجهلة الذين أنتجتهم الهجرات رأى “بن سعود” فلم يعجبه ثوبه، فجاء بمقص وقصّر ثوبه، وقال له إنه فعل ذلك (إنكارا للمنكر).. (ذلك أن من السنن التي تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقصير الثوب)..

هل غضب (بن سعود)؟

بالعكس.. لقد أقرّه على مافعل.. وشكره !

ولا شك أنه كان في قمة السعادة، لقد نجح نجاحا باهرا !

ففي الوقت الذي كان مجلسه عامرا بالـ”كفار” من مبعوثي بريطانيا، وفي الفترة التي كان يتآمر فيها آناء الليل وأطراف النهار على الأمة، لم يلتفت أحد من هؤلاء الجهلة لكل مؤامراته مع الانجليز، ولا بيعه لفلسطين، ولا استيلائه على ثروات الأمة، ولكن لم يَفُتْهُمْ أن ثوبه أطول مما ينبغي !

لقد وسع حكمه بهؤلاء الإخوان، استغل عاطفتهم الدينية، فزرع فيهم دينا لا علاقة له بالإسلام، فكانت كل توسعاته (فتحا إسلاميا) بالنسبة لهؤلاء البدو خريجي “الهجرات”، وبعد أن قتلوا آلاف البشر تخلص منهم، فقتل قادتهم، وأعمل السيف فيمن تمرد منهم، وفي النهاية ضم من تبقى منهم بعد خضوعه لما يسمى بالحرس الوطني.

*        *        *

هذا الدين المحرف هو ما نشره آل سعود بمليارات الدولارات لعشرات السنين، دين “آل سعود” الذي يحرم الخروج على الحاكم الخائن العميل، ويفرض الطاعة لولي الأمر الذي يوالي الأجنبي، ويبيع الأوطان لصالحه الشخصي.

دين “آل سعود” لا علاقة له بالإسلام، إنه دين “جهيمان العتيبي” !

دين لا يرى حجم الجريمة الإسرائيلية في قتل “شيرين أبو عاقلة” ولكنه يرى الجريمة الكبرى في الترحم عليها، (والأمر من الناحية الشرعية ليس جللا، ففي النهاية فيه رأيان).

دين لا يرى ثروات الأمة وهي تتكدس في بنوك أوروبا وأمريكا، أو تنفق تحت أقدام العاهرات في بارات العالم، ولكنه يرى ضرورة أن يتقشف الفقراء، وضرورة أن يقصر الحاكم ثوبه.. لأن ذلك سلوك النبي عليه الصلاة والسلام.

هذه المملكة الخبيثة التي أصبحت تتهم دعاة الإسلام الوسطي اليوم بأنهم المتشددون الذين ابتلوا الأمة بالصحوة.. هي أساس التفكير التكفيري الداعشي، وكم ارتكبوا من المجازر لتوطيد حكمهم، وكانت هذه المجازر على أساس ديني بحت، فكانوا يقتلون المسلمين معصومي الدماء بحجة أنهم كفار دمهم حلال.

بهذه الطريقة أقنع ابن سعود هؤلاء “الإخوان” بقتال جنود الخلافة العثمانية، فهؤلاء الأتراك ليسوا مسلمين، إنهم مشركون قبوريون، وكان مطمئنا لجهلهم، فقد زرع فيهم هذا الجهل بنفسه، صنعه صناعة، لذلك لم يعترض أحد من هؤلاء على محاربة الأتراك لصالح الإنجليز، ولكنهم اعترضوا على طول ثوبه والحمد لله !

*        *        *

حين استشهدت الصحفية المناضلة “شيرين أبو عاقلة” رحمها الله وتقبلها في الشهداء.. ثار الجدل في مسائل لا علاقة لها بالحدث الجلل، لقد كانت المفاهيم التافهة لدين “آل سعود” حاضرة على الساحة، وكان من الواضح أن الاستعمار قد زرع في أمتنا هذا الكيان الخبيث، وأن هذا الكيان قد فرّق الأمة بزرع هذه الأفكار المتخلفة التي تترك الولاء الحقيقي للأمة فتبيح خوض الحروب لصالح جيوش الاستعمار، وتسليم ثروات الأمة للغرب.. وتخوض المعارك الغبية التي تحاسب المرء على ترحمه على فلان أو علان.. إنها العقلية ذاتها التي تنكر المنكر بتقصير ثوب رئيس الدولة.. ولكنها لا ترى خيانته المشهرة أمام الثقلين !

*        *        *

يظن بعض قليلي العلم الشرعي أن هؤلاء يقتدون بعلماء كبار على رأسهم الإمام ابن تيمية، والحقيقة أنه منهم براء، وهم لا يفهمون تراثه أصلا.

لقد كان ابن تيمية عالما مجاهدا، وكان دائما يرى أبعادا اجتماعية وسياسية في فتاواه واجتهاداته، وكان دائما يراعي استقلالية الأمة عن كل غزو أجنبي دخيل.

أما هؤلاء.. فهم ضحايا لدين جديد اخترعه آل سعود، دين لا يرى إلا طاعة الحاكم الظالم المتغلب.. وإن سلب مالك.. وإن جلد ظهرك.. تعالى الله عن هذا الإفك علوا كبيرا !

*        *        *

سيكون واجبا على دعاة التغيير أن يقاوموا هذا التيار المدعوم من مخابرات تلك المملكة، هذا التيار الذي كان له سبقٌ في إفساد ثورات هدفها العدل، والحرية.. فأدخلونا بمزايداتهم في مسائل لا خلاف عليها تتعلق بهوية الدولة والمجتمع..

إنهم نبته خبيثة، لا بد من مقاومتها، بالفكر.. وبقطع جميع سبل التمويل التي تأتي من مملكة الشر !

إنها معركة طويلة، سنخوضها، وسننتصر فيها.. جنبا إلى جنب مع معركة التغيير السياسي السلمي التي بدأت.. ولم تنته، ولن تنتهي إلا بانتصار الشعوب.

للتعليق على المقال

المقال السابق

رسالة لأبناء المخلوع

المقال التالي

حقيقة لا يقولها أحد

منشورات ذات صلة
Total
0
Share