زمن الأكاذيب الدنيئة

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 15/11/2020

وهل كنا قبل ذلك في زمن الصدق؟

بالطبع لا.. فمصر تعيش زمن الأكاذيب منذ انقلاب مارس 1954م، ولكن الكذب لم يكن بهذا التدني (لا يمكن أن أنسى هنا أن مصر عرفت أياما مجيدة بعد يناير 2011، حيث كان الصدق مفروضا على الشاشات، محروسا بقوة الجماهير، وكان هناك من يفضح الأكاذيب باستمرار من الإعلاميين الأحرارا).

مرّت على مصر عهود كاملة من الكذب، ولكنه كان كذبا يجد من يصدقه، لأسباب وظروف تتعلق بالعصر الذي أطلقت فيه تلك الأكاذيب على الأقل، فأنّى لمواطن يعيش في القاهرة ويسمع إذاعة صوت العرب تصرخ (أسقطنا تسعة عشر طائرة) أن يعرف أن قواته تلهث راكضة في صحراء سيناء تحت الشمس الحارقة، وتحت قصف الطيران الإسرائيلي !

كان المواطن في ذلك الوقت يحتاج وقتا لكي يكتشف الحقيقة، يحتاج أن تمر أيام وأيام حتى تصل تلك القوات المهزومة الهاربة إلى بورسعيد، وحينها يبدأ أهالي بورسعيد بالكلام، ويصل الكلام بعد ذلك إليه في القاهرة، مع همسات من هنا وهناك من بعض الذين يستمعون إلى إذاعات أجنبية تتحدث عن الهزيمة الساحقة (لم يكن كل من يستمع يجرؤ على الكلام)، وبعد شهور وشهور.. يكتشف ذلك المواطن حجم الهزيمة التي أصابت الأمة بفضل القيادة “التاريخية”.

هكذا كانت الحياة، أكاذيب تجد بعض المغفلين الذين يصدقونها.. أما اليوم.. فإننا نعيش في عصر تستطيع أن تعرف فيه المعلومة فورا، وفي ظل نظام لا يكاد يصدقه أحد، فلا تكاد تجد مذيعا يستطيع أن يتقمص شخصية المذيع المشؤوم الذي بشر الشعب المصري بإسقاط الطائرات الإسرائيلية في عام 1967، الكذب واضح في عيون المذيعين والمذيعات، والمشهد رخيص إلى أقصى حد، وكفاءة التلفيق أصبحت مضحكة، والابتذال في الكذب أصبح عارا يلاحق هذه السلطة، ولا شك أن هذه الأكاذيب لن تمر دون حساب.

* * *

يحاول النظام إقناعنا أن مصر لا تعاني من تفشي الكورونا، يلفق أرقاما مضحكة، ولا يتعبون أنفسم في إجراء مسحات حقيقية لمتابعة حجم انتشار الكارثة، ويظل الجميع يرددون الأكذوبة نفسها، أن مصر تمكنت من الانتصار على الكورونا، وإذا سألتهم كيف؟ قالوا إنها محفوظة من الله، ومذكورة في الكتب المقدسة كلها..

ثم يأتي اللاعب الدولي محمد صلاح ليحضر عرس أخيه، فيصاب بالكورونا طبعا، لأن الحقيقة أن معدلات تفشي المرض ربما تكون من أعلى المعدلات في العالم بحساب عدد السكان (لو أجريت إحصاءات حقيقية سيثبت ذلك، وهذا رأي كثير من الأطباء المتخصصين)، وتتناقل وكالات أنباء العالم خبر إصابة النجم الدولي، وتفتضح الكذبة، تلك الكذبة الدنيئة التي لا يصدقها أحد من المصريين أصلا !

* * *

الكذب الدنيء الذي يمارسه أهل الحكم في مصر لا يعبأ كذلك بمعقولية الكذب، باتساق الكذبة مع ما قبلها، وما بعدها من أكاذيب !

فجماعة الإخوان المسلمين في الإعلام المصري يتغير شكلها وحجمها وقوتها كل يوم..

فإذا تحدثت عن إنجازات “سيسي” في الحكم، تقول إن الجماعة قد قضي عليها قضاء مبرما، وأنها لن تقوم لها قائمة مرة أخرى، وأنها ماض وانتهى.

أما إذا رأينا المواطن المصري “محمد حسني” يحرق نفسه بالبنزين في ميدان التحرير على الهواء مباشرة (وهو يصرخ من الظلم والاضطهاد).. فيتغير وضع جماعة الإخوان المسلمين فورا، وتستعيد قدراتها الخارقة، وتستعيد إمكاناتها في السيطرة والتحكم في أتباعها، فتصبح جماعة قادرة على فعل أي شيء، وكل شيء، لدرجة أنها تستطيع أن تأمر أحد أتباعها المختلين عقليا بأن يحرق نفسه في ميدان التحرير !

ولكي يصدق المشاهد هذه الكذبة الدنيئة، يتم تعضيدها بأكاذيب أشد دناءة، فترى زوجة الرجل المسكين، وابنه، أمام شاشات التلفاز يتحدثون عن أبيهم المسكين بكلام قد أملي عليهم من ضابط دنيء، لكي ينقذ كذبته الدنيئة، بأكاذيب أشد دناءة.

كل هذا المسلسل الدنيء.. لا يصدقه أحد.

* * *

ما يسمى بانتخابات البرلمان، يعرف القاصي والداني أنها مجرد معركة بين أصحاب الملايين على كراس تتيح لهم فرصة أخرى من الإفلات من العقاب، مع فرصة مراكمة مزيد من الملايين.. لا أكثر.

والمعركة هنا ليست على أصوات الناخبين، فالناخبون لا يذهبون للصناديق أصلا، ولكن المعركة على دعم أجهزة الأمن للمرشح، فكل يظهر ولاءه لهذه الأجهزة، ويرشو المسؤولين لكي يكون ضمن القائمة المرضي عنها، والتي تقرر سلفا أنها القائمة الرابحة.

(من المضحكات المبكيات أن البعض يعتبر أن في هذه المجالس أناس محترمون ثوريون).

في هذا الموسم نتابع الأكاذيب نفسها التي كانت تطلق في جميع العهود، وتتحدث عن النزاهة والشفافية، وكلمة الشعب، وعرس الديمقراطية.. الخ

ليت هؤلاء يكتفون بهذا الكذب الدنيء، ولكن هيهات، ففي اللحظة نفسها التي يتحدثون فيها عن نزاهة انتخاباتهم تراهم يتحدثون عن تزوير انتخابات نجح فيها “جوزيف بايدن” !

من الممكن في عالم اللامعقول أن يصدق بعض المخابيل كذبة من الكذبتين، ولكنك حين تضعهما معا في سياق واحد.. ستجد أن المتحدث قد بلغ حدا من الجنون لا يصدق !

* * *

أما أكثر الأكاذيب دناءة فهو ما يحدث مع المعارضين المصريين، سمعتهم، أعراضهم، ذممهم المالية.. ما يحدث أمر هو نهاية منتهى الدناءة، وهي دناءة تجاوزت حدود الماضي الدنيء الذي تأسس في الخمسينات واستمر حتى اليوم (باستثناء أيام الحرية التي فرض فيها الشعبُ الصدق بقوته على الشاشات).

ما يحدث مع الناشطة المخلصة غادة نجيب، وزوجها الفنان الحر هشام عبدالله هو الأكثر دناءة في تاريخ هذا النظام الغارق في الدناءة منذ سبعة عقود.

الغريب في الموضوع أنهم يظنون أن هذه الأكاذيب الدنيئة ستمر دون حساب.. وهيهات أن يكون الأمر كذلك.. يوم الحساب قريب.. وستثبت الأيام ذلك.

حفظ الله مصر.. وحررها من الاحتلال الذي يرفع علم الوطن..

رابط المقال

المقال السابق

هل كنا في انتظار "هتلر"؟!

المقال التالي

الحقوقيون العملاء !

منشورات ذات صلة
Total
0
Share