تطبيع وتطبيع

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 29/11/2020 م

منذ بدأت حمّى التطبيع الأخيرة (هذا العام 2020) بإعلان بعض الدول العربية (والبقية ستأتي قريبا) والكل يتحدث عن السلام، وعن وحدة الجنس البشري، والمشتركات الإنسانية، وضرورة نبذ العنف.. وغير ذلك من الكلمات البراقة التي نعرف جميعا أن المقصود بها الاستسلام التام لدولة الكيان الصهيوني، ومساعدتها في خططها العدوانية التوسعية.

في الوقت نفسه الذي يسير فيه موكب التطبيع تُشَنُّ حملات فكرية وإعلامية وأمنية ضد كل من ينادي أو يذكّر بوجود احتلال، وبضرورة مقاومته، حتى لو كان ذلك بشكل سلمي، كمقاطعة البضائع الإسرائيلية على سبيل المثال (راجع التضييق الذي يحدث على حركة BDS مثلا)، حرب شعواء على كل من يحاول استعادة اسم “فلسطين”، بأي شكل من الأشكال..

التطبيع الجديد الذي تدعو له هذه الدويلات هو غشاء شفاف جدا يفضح ما تحته من العداء للأمة العربية والإسلامية، والرغبة العارمة في إنهاء القضية الفلسطينية بحل نهائي دائم يفرض التفوق الكامل للكيان الصهيوني، دون أي مكاسب من أي نوع للشعب الفلسطيني..

هذه هي رؤيتهم للسلام، وهذا هو معنى التطبيع الحقيقي الذي يدعون إليه، وهذه هي “المعاني الإنسانية” التي يزعمونها.

*        *        *

لو سأل سائل عن سبب ذلك السعي المحموم للوصول إلى فرض حل من هذا النوع، فالإجابة واضحة، هذه الأنظمة لا يمكن أن تستمر في الحكم دون الدعم الإسرائيلي، وهي معزولة عن مجتمعاتها عزلا كاملا، وليس لها أي شرعية لتمثيل الغالبية الساحقة من المواطنين، وبالتالي أصبحت إسرائيل وسيلة بقائهم في الحكم، فهي شفيعهم لدى القوى العظمى، وبحسن سيرهم وسلوكهم في نظرها يحصلون على السلاح، وعلى الشرعية الدولية، ويتم ترشيحهم لجوائز السلام العالمية الكبرى !

من يظن أن أهل الإمارات أو البحرين – على سبيل المثال – موافقون على تطبيع العلاقات مع إسرائيل (رسميا أو شعبيا) فهو مخطئ.

ولو أجري استفتاء حر نزيه، يأمن الناس فيه من عواقب تصويتهم بنعم أو بلا.. لوجدنا الغالبية الساحقة من العرب ضد كل أشكال التطبيع (ينطبق ذلك على جميع الدول العربية بلا استثناء يكاد يذكر).

وما حدث مع الممثل المصري المدعو محمد رمضان يمكن أن يحدث مع أي شخصية عامة تروج للتطبيع في جميع الدول العربية، وغاية ما في الأمر أن الشعب المصري – حتى الآن – ما زال يفرض منع التطبيع على حكامه، ويفرض مقاطعة الصهاينة على نفسه باختياره الحر، وفرض هذا الأمر من أي سلطة يبدو صعبا، كما أنه يبدو على غير مزاج السلطة، فكما ترغب السلطة في مصر في احتكار القوة، واحتكار العلاقات الخارجية، واحتكار المال، واحتكار الرؤية، فإنها ترغب أيضا في “احتكار التطبيع”.

لذلك ليس من المستحسن أن نبالغ في ذم شعوب بعينها بسبب قرار فوقي بالتطبيع فرض عليها بقوة السلاح، فهذه الشعوب لا تملك فرصة إبداء الرأي في تلك القرارات، كما أن إبداء الرفض بشكل فردي يعتبر مرادفا للانتحار.. بل ربما يكون أسوأ من ذلك، لأن قرارات الأجهزة الأمنية للتعامل مع من يبدي رأيا فرديا تكون بمعاقبة عدد كبير من أسرة الشخص، أو الأسرة كلها، وتبدأ العواقب بالسجن والاعتقال، مرورا بمصادرة الأموال، وصولا إلى إسقاط الجنسية.

*        *        *

التهافت المخجل في التطبيع مع الكيان الصهيوني يقابله تصلب وصلف في تطبيع آخر مع أقرب المقربين !

الدول التي تحاصر دولة قطر منذ أكثر من ثلاث سنوات تعامل قطر معاملة لم تُعامل بها إسرائيل في أي لحظة من لحظات الصراع الذي بدأ قبل استقلال غالبية هذه الدول.

تعاند هذه الدول في إعادة علاقات عاقلة مع تركيا، وتصوّرها كخطر عسكري واستراتيجي، في الوقت الذي يرتمي القادة الأفذاذ في أحضان إسرائيل وكأنها أمهم بالرضاعة.

تطبع هذه الدول علاقاتها مع كل الدول والكيانات الإرهابية المسلحة التي يمكن أن تكون مخلبا يؤذي الأمة، لا فرق بين فرنسا وأرمينيا وصربيا واليونان، لا فرق بين البي كي كيه والميليشيات الشيعية في العراق أو سوريا أو أي حركة مسلحة تحارب تركيا في أي مكان في العالم..

*        *        *

ثم دارت الدائرة على من مكر المكر السيء، وها هو “بن سلمان” يحاول إغلاق ملفاته المثقلة بالدماء بعد أن خسر “ترامب” الانتخابات، فهو يحاول الآن “تطبيع العلاقات” مع قطر !

والحقيقة أنه في وضع شديد الحساسية، وكان ينبغي عليه أن يحسم ملفات عدة في عهد أجيره وسيده “ترامب”، من أهمها ملف توليه المُلك، وملف حصار قطر، وملف حرب اليمن، ولكنه أخطأ في حساباته، وسوف يواجه أياما شديدة الصعوبة إذا لم يتمكن من “تطبيع” مهم، وهو “تطبيع” علاقاته مع السيد “جوزيف بايدن”.

ومن الواضح أن القادم الجديد للبيت الأبيض لن ينجرف في مغامرات غير محسوبة، وسيعيد للسياسة وزنها، ذلك أن ما حدث في عهد المخبول “ترامب” لا يمكن وصفه بمصطلحات سياسية، لقد كان عبثا محضا، مجموعة من المستبدين العرب المجرمين الفاسدين، تمكنوا لأول مرة في التاريخ من شراء رئيس أمريكي (أو تأجيره)، مقابل ما يقرب من نصف ترليون دولار.

هذا الوضع من الصعب أن يستمر في الفترة القادمة، وليس معنى ذلك أننا سنرى السيد “بايدن” يخوض حروبنا نيابة عنا، بل غاية ما في الأمر أن سمت الرئاسة سيعود كما كان، وستعود للمؤسسات كلمتها، بعد سنوات من الحكم عبر “تويتر”.

رابط المقال 

المقال السابق

الحقوقيون العملاء !

المقال التالي

للأسف.. ربحت الرهان

منشورات ذات صلة
Total
0
Share