الموت في المنفى

هذه المقالة هدية لروح صديقي الحبيب عمرو علي رحمه الله في أربعينه، وإلى والدته الغالية وأسرته الكريمة، وإلى كل محبيه، وهي جزء من كتاب (ديوان السفر)، أتمنى أن يصدر قريبا بإذن الله
عبدالرحمن يوسف

في رحلة انتزاعي من مُسْتَقرِّي في مصر، كنت أفكر في موتي خارج وطني، لقد شاء الله أن لا تبدأ حياتي في مصر، ولدت خارجها، وما زلت آمل أن يكون ختامي ومستقر عظامي في ترابها.

اكتشفت بعد ذلك أن الموت في المنفى ليس موت المنفيِّ وحده … بل هو موت يتجدد مع موت كل حبيب … مع كل حرمان من جنازة أو طقوس دفن أو حضور عزاء ! فلان مات … البقية في حياتك

دلالات الكلمات تتغير … قد تبدو هذه الخاطرة ممتلئة بالشجن الشخصي لكاتبها، والحقيقة أنها ألم شخصي بحت … وبوح متألم صامت !

أنا القائل :

في مِصْـرَ يـُغـْفـَـرُ للذي قـَدْ فـَاتـَـهُ عـُرْسٌ

ولـَكِـنْ لـَيْـسَ يـُغـْفـَـرُ للذي تـَـرَكَ العـَــزَاءْ …

في مِصْـرَ فـَاقـَـتْ مُشْكِـلاتُ المَـوْتِ مُشْـكِـلـَـة َ البَـقـَــاءْ … !

أنا القائل :

في مِصْـرَ قـَدْ تـَبْـدُو طـُقـُوسُ الـدَّفـْـن ِ للعَـيْـن ِالغـَريبـَةِ  ذُرْوَةَ

اسْتِسْلام ِ شَـعْـبٍ للدِّيَـانـَـاتِ القـَدِيمَـةِ والسَّـلاطـيــن ِ العـُتـَـاةْ…

لـَكِـنْ طـُقـُـوسُ الـدَّفـْـن ِ في مِـصْـرَ اخـْتِـرَاعٌ عَـبْـقـَـريٌّ

يَسْـتـَعِـيـدُ بـِـهِ الفـَقِـيـدُ وُجـُـودَهُ في قـَلـْبِ مَـنْ عَـرَفـُـوهُ عـَبـْـرَ العُـمْــرِ

كـَاليَخـْضـُـورِ يَـجْـري في النـَّبـَــاتْ …

في مِصْـرَ تـَخـْتـَـزِلُ الجـِنـَـازَةُ كـُـلَّ أشـْكـَـالِ الحَـيــاةْ…

تـَبـْـدُو كـَمَـوْكِـبِ قـَائِــدٍ ذي هَـيْـبـَـةٍ  قـَـدْ فـَـاقَ عِـنـْـدَ النـَّـاس ِ آلافَ الـوُلاةْ…

الفـَـنُّ والمِعْـمَــارُ والكميَـاءُ في مِصْـرَ القـَديـمَـةِ  و الحَديثـَـةِ

ذَرْوَةُ اسْـتِـخـْـدَامِ دُنـْيـَـا الـنـَّـاس ِ مِـنْ  أجـْـل ِ المـَمـَــاتْ … !

حِـفـْـظُ الـرُّفـَـاةِ  بمِـصْـرَ يَـعْـنِـي خـُلـْــدُ ذَاتْ … !

أنا الذي لم أحضر عرسا منذ سنوات طوال … ولم أفوِّت جنازة حبيب … الجنازة في مذهبي – ومذهب المصري الأصيل – أهم المناسبات كلها، المصري مجبول على الأحزان، حياته سلسلة من الكوارث، والفرح جملة اعتراضية لا محل لها من الدموع، لذلك ترى المصري يتذكر من حضر الجنازة وينسى من غاب عن العرس.

أنا القائل :

الفَـرْحُ  يأتينَـا بأحْيـانٍ ولـَكـِنْ …

دائِمـًا يَأتي كَهَـوْدَجِ حَاكِـمٍ لا نـَسْـتـَطِـيـــعُ نَـرى دَوَاخِلَـهُ

فَيَبْـدو مُصْمَـتـا …

الفـَرْحُ يَأتينـا ليَمْسَـحَ  دَمْعَـةً تَمْتَـدُّ في نَسَـبِ  البُكَـاءِ

إلى جُـدُودِ جُدُودِنـَـا

تَفـْنـى مَنَاديـلُ السُّـرُورِ

ودَمْعـُنـَـا لَمـَّـا يَــزَلْ في دَفـْقِـهِ مُتـَعَـنـِّتـــا …

الفَــرْحُ يأتينـا مُفاجَـأةً ولكِـنْ …

صَـارَ يَأتـي خَائِفــًا

فالـحُـزْنُ في بَلـَـدي الحَبيــبِ مُدَبَّــبٌ

مَـا زالَ يَخْتَــرِقُ السُّـرُورَ

يَضُـخُّ  فيــهِ مُنَغِّـصَـاتِ العُمْـرِ مِـنْ مَـوْتٍ

ومِـنْ مَـرَضٍ

ومِـنْ  وَجْـهِ الرَّئيــسِ

ومِـنْ هـُمُـومِ الـرِّزْقِ

حـَتـَّـى يَرْتَمـي مُتَفَتـِّتـا …

الفـَـرْحُ يأتـي – إنْ أتَـى – مُتَوَاضِعـًا …

مُتـَصَاغِــرًا جِـدًّا أمَـامَ الحُـزْنِ في مِصْـرَ التي

قَـدْ رَوَّضَـتْ أزَلـيـَّـةُ الأحْـزَانِ فيهَـا كُـلَّ فَـرْحٍ حَـادِثٍ

أو طَامِـحٍ في أنْ يَـرَى للـفَــرْحِ فيهَـا مَنْبـِتــا …

الفَــرْحُ يأتـي – حيـنَ يأتـي – خَائِفـًا …

يَخْشَـى تَجَـاوُزَ حَــدِّهِ …

يَخـْشَــى سُيُــوفَ الحُـزْنِ تـُغـْــرَسُ في ابْتِـسَامَتـِـهِ

فَيُمْسِـي  مَيـِّتـا …!!!

أنا رجل العزاءات والجنازات والأحزان والهموم … يرحل أحبابي واحدا تلو الآخر … وأرثيهم وحيدا في منفاي.

قسما برب الناس ليَنْتَهِيَنَّ هذا المنفى قريبا … وقسما برب الناس لأقِفَنَّ على قبور أحبابي الراحلين داعيا قبل أن يهدأ لي بال أو يغمض لي جفن.

مات حبيبك وصديقك في مصر … وأنت المنفيُّ خارجها، لن تحمل نعشا، ولن تصلي جنازة، ولن تسير في مسيرة الباكين للقبر، ولن تصافح أحدا معزيا.

ستدعو للراحل عن بعد، وستقرأ الفاتحة … لن ترى شاهد قبره، ولن تقرأ ما كتب عليه.

رحل الصديق الصدوق العزيز الغالي … فجأة … جاءني الخبر : عبدالرحمن … البقية في حياتك … “عمرو علي” تعيش انت … ولا نجد من يبلغ أمه هذا الخبر … هل تعرف من أصدقائه من يقوم بهذه المهمة الصعبة؟

ترحمت عليه … ثم أخبرت المتصل … فلان الفلاني … إنه زميل دراسته الذي أعرفه … هذا رقم هاتفه.

ها هو همٌّ جديد، معنى جديد، ألم جديد !

كنت أحمل همَّ موتي ودفني في منفاي، واليوم أحمل همَّ موت أحبابي، وأنا المنفيُّ المحروم من اقتسام الأحزان مع المحبين.

كان عمرو علي مفاجأة سارة دائما … تعرفي به كان مفاجأة … ودوما لقائي به كان مفاجأة !ألو … أنا في القاهرة … إنت فين؟ موجود يا صديقي

هكذا … يأتي عمرو من مرسى علم أو من أي مكان في الدنيا بسبب أسفاره المتكررة … نجلس معا … مع صحبة من الأصدقاء أو وحدنا … وينتهي اللقاء فجأة … ثم يسافر إلى البحر الأحمر بالطريقة نفسها … فجأة.

وهكذا … رحل وترك خلفه آلاف الباكين … فجأة …!

فلسفة المفاجأة في حياة عمرو علي ليست صدفة … حياته سلسلة من المفاجآت السارة للآخرين … ويشهد على ذلك مئات الكلمات التي قيلت فيه بعد رحيله.

والدة الصديق الغالي استقبلت أصدقاءه المعزين، تصافح أحدهم وتسأله “متى عرفت ابني؟ احك لي موقفا أو حكاية أو ذكرى لكما معا؟”

يا أمنا الطيبة … لابنك صديق منعته بنادق العساكر ودبابات الجيوش ومراسيم الاعتقال على بياض وأوامر الضبط والإحضار بالزور والأحكام الغيابية بالسجن والتهديد بالقتل بتهمة اللاشيء … منعته كل تلك الترهات من البكاء على قبر ابنك الحبيب … منعته أن يقف بين يديك في لحظة الدفن والعزاء … أو زيارتك في الأربعين … أو تقبيل يديك بعد الانتهاء من ختم القرآن لروح الغالي … لابنك صديق أوصدت في وجهه أبواب الوطن فلم يقف معك في تلك اللحظة، فوقف وحيدا يرثي نفسه ويرثي الوطن ويرثي الراحل العزيز !

لو كنت مَعَكِ … لو وقفت بين يديك … لقلت لك “لي مع ابنك الغالي أيام وأيام” !

ما زلت أذكر حين دخل عليّ المقهى – فجأة كعادته – وأنا أقرأ في حماسة أبي تمام، فخطف الكتاب من يديّ ثم قرأ فيه عدة دقائق، ثم هز رأسه طربا وقال :

فما يَنْهَضُ البازي بغيرِ جَنَاحِهِ              وما تَحْمِلُ السَّاقين إلا الحَوَامِلُ

وما سابقٌ إلا بِسَاقٍ سَليمَـــــــةٍ              وما باطِشٌ إنْ لَمْ تُعِنْهُ الأنامِلُ !

ويحك يا ابن الجامعة الأمريكية … أتطرب لأبيات أبي الأسود الدؤلي وتقرأها بعربية سليمة نكاد لا نجدها في زمننا هذا عند خريجي الأزهر وكليات الآداب؟!

كانت ثقافته وهواياته وحياته كلها – بالنسبة لي – مجموعة من المفاجآت !!!يخرب عقلك يا عمرو … لغتك العربية سليمة وجميلة ! في إيه يا سكر؟؟ انت شايفني خواجه !!!

كان يتقن الإنجليزية إتقانا كاملا، ولم يكن من الذين يُطَعِّمُون أحاديثهم بمصطلحات أو جمل إنجليزية (للتباهي)، بل لعله كان أقرب إلى تطعيم حديثه بالألفاظ العربية (دون تعمد أو فذلكة).

سأخبرك يا أمنا … عن تظاهرة سرنا فيها معا عام 2005، لن أقول “سرنا فيها”، فوالله ما سرنا … لقد طوّقتنا قوات الأمن المركزي فلم نتحرك من أمام جامعة القاهرة خطوة واحدة !

في ذلك اليوم يا أمنا الغالية … قال لي العزيز الغالي : “أترى هذا الشخص هناك؟ هذا الذي يخفي وجهه بالجريدة لكي لا تلتقطه الكاميرات؟”

قلت : “أراه … من هو؟”

قال : “هذا رجل الأعمال الشهير فلان الفلاني … ابن رجل الأعمال الكبير علان العلاني” !

قلت له : “مستحيل … ماذا يفعل هذا في تظاهرة ضد مبارك؟”

فأجاب بخفة ظله التي لم ير لها من عرفه مثيلا : “هذا الشخص يقوم بعملية (شوبنج سياسي)، الاحتياط واجب برضه، ووجوده هنا له دلالات كثيرة تتعلق باستمرار مبارك في الحكم، أو إمكانية توريث السلطة لابنه”

يا أمنا الغالية … هل حكى لك عمرو عن معاركه الضارية (والتي دارت في هدوء تام وبلا ضجيج مفتعل) دفاعا عن الشعاب المرجانية؟ دفاعا عن أسماك القرش؟ دفاعا عن الدلافين؟ دفاعا عن شواطئ البحر الأحمر؟

هل أخبرك عن جهوده في جمعية “هيبكا” في الحفاظ على البيئة؟

هل أخبرك كيف كان يعتبر البشر البسطاء هم أساس الحفاظ على البيئة؟

هل أخبرك كيف استطاع أن يقضي على مشكلة القمامة في الغردقة؟

يحكي لي كيف دخل على سيادة المحافظ … كان جنرالا فاسدا كالعادة، وبعد أن شرح له كيف يعتدي على البيئة رجل الأعمال فلان الفلاني صاحب المشروع الضخم على البحر مباشرة، وعضد كلامه بوثائق وفيديوهات تظهر الاعتداء بالصوت والصورة، اعتداء سافر على الشعاب المرجانية، تدمير كامل لثروة لا تعوض … قال له السيد الجنرال المحافظ الجهبذ : “انت حاربت عشان الأرض دي؟”

فقال له عمرو “لا” !

فأجاب اللواء الفاسد بلهجة تَشَفٍّ سخيفة : “أنا بقى حاربت عشان الأرض دي” !

إذن … لا مجال لاتهامه بالفساد والمحسوبية والرشوة … ولا مجال لوقف الاعتداء على الشعاب المرجانية حتى لو كان ذلك موثقا بالصوت والصورة، لأن سيادة اللواء الذي حارب من أجل تحرير هذه الأرض قرر أنه لا يحق لأحد سواه أن يتحدث عن فساد … لأنه حارب … ونحن لم نحارب.

ها هم يا أمنا الغالية يحتلون مصر كلها … وما زال هذا المنطق التافه على ألسنة هؤلاء المسؤولين الفاسدين الذين يحسبون أنهم آلهة من دون الله في الأرض (الأرض التي حاربوا من أجلها).

كان ابنك العزيز الغالي ذكيا، حكيما، يعرف كيف يتعامل مع هؤلاء الجنرالات، ويأخذ ما يريده منهم دون صدام لا داعي له، ولكنه حين يتحتم الصدام … كان لا يهاب في الحق لومة لائم (بمئات الشهادات من الثقات العدول، ومن العدو قبل الصديق).

وضريبة ذلك أنه عاش رافعا رأسه، لا يقبل شبهة خدمة من أي أحد، لا يقبل دعوة على العشاء لم يدفع ثمنها، لا يقبل أي شكل من أشكال المجاملات التي قد يستغلها أي صاحب نفوذ لتمرير بعض مصالحه الفاسدة … باختصار … لقد عاش حياته كلها دون أن يكون مدينا لأحد !

يا أمنا … لقد كان ابنك رجلا … عاش كما يعيش الرجال … ورحل دون أن يتنازل أو يتغير.

لقد كان إنسانا … يحب كل الكائنات … ويحب كل البشر … لا يعرف التمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو السن أو اللون !

كان خيمة وملجأ للبشر والحيوانات والطيور والسلاحف والأسماك … ولكنه رغم كل ذلك كان يعرف الحق من الباطل … فيحب أهل الحق … ويكره أهل الباطل … لذلك كان مع القضية الفلسطينية قلبا وقالبا، وكان دائما ضد الأنظمة الحاكمة المستبدة في مصر … يقاومها ما استطع إلى ذلك سبيلا !

كان مفاجأة سعيدة لكل من عرفه … وكان مفاجأة مذهلة لكل الكائنات التي استفادت من وجوده وحماها من الانقراض كما هو الإنسان المصري مهدد اليوم.

كان محل ثقة كل من يعرفه … كنت أقول له وبلا مقدمات “انصحني” !

من القلائل الذين كنت أحب الاستماع إليهم.

كنت أشعر به إنسانا يملك من الثوابت والأمانة الكثير، أراه يُكَمِّلُ نقصي، يقلل عيوبي، يكبح اندفاعاتي (وما أكثرها يا أمنا).
كان واقعيا إلى أقصى الحدود، يجيد رفع الواقع كما هو، دون أن يعيش في الأوهام، ودون أن يقتل الأحلام، ولكنه رغم ذلك كان صاحب طموح في التطور، مؤمنا بالتغيير، وذلك على عكس غالبية من هم في مثل عمره، وكثيرين ممن يجيدون فهم الواقع.

لذلك كنت أطلب نصيحته !

إنه الصديق الذي يشعرني بأهمية قضيتي، وجدوى نضالي من أجل التغيير، دون أن يُزَيِّنَ لي أن أسير خلف أوهام لا مكان لها في أرض الواقع، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الحكماء، وهم في حياتي قلة.

لذلك … كانت نصائحه لي قَيِّمَة، ودوما نافعة، وكم حزمت أمري في مواضيع ترددت فيها لأنه شجعني، وكم أعدت التفكير وأحجمت لأنه حذرني !

كان رجلا … طيب المعشر … صلبا في الشدائد.

في يوم من الأيام استيقظ العزيز الغالي على فاجعة، غرقت إحدى مراكبه في الميناء بسبب خطأ بسيط … وخسر بسبب ذلك خسارة مالية كبيرة.

كان في كرب عظيم … ولكنه تماسك، واستطاع بفضل الله، ثم بفضل حب الناس له أن يستعيد تماسكه وأن يعوض خسارته تلك.

لقد رفض ابنك أن يعيش لنفسه فقط، فقضى عمره سحابة تمطر خيرا على آلاف البشر، وملايين الكائنات … سحابة لا موعد لها … يأتي خيرها فجأة … وها هي ترحل فجأة !

لولاه … لماتت ملايين الأسماك، والسلاحف البحرية، والغزلان والوعول البرية !

لولاه … لفقد آلاف البشر وظائفهم، أو منيت أعمالهم بخسائر كبيرة، وليبحث من يريد أن يستزيد عن دوره في معركة “الجفتون”.

لولاه … لانتهت متعة آلاف الزائرين لتلك السواحل والصحارى التي ساهم في الحفاظ عليها، لقد وقف ضد هؤلاء المسؤولين الجنرالات الذين يشتريهم رجال الأعمال بالدولار ليكي يفسدوا كل ما هو جميل، فيزيلوا الجمال الطبيعي الذي خلقه الله، ذلك الجمال الذي لا يعوض … يفسدونه ببنايات خرسانية غبية قميئة … لا طائل من ورائها سوى زيادة أرصدتهم.

هؤلاء الفاسدون الذين يجاملون أصحاب النفوذ بالدخول إلى مناطق بكر من أرض مصر، فيسمحون لهم بالصيد الجائر الذي يقضي على كائنات جميلة … لم يقف لهم ولم يقاومهم بجهد منظم … سوى هذا العزيز الغالي الذي رحل وتركنا مشتاقين له.

السادة اللواءات الذين يزعمون أنهم حاربوا من أجل هذه الأرض حَوَّلوا (جبل علبة) في مثلث حلايب وشلاتين إلى منطقة عسكرية، لا يدخلها مصري إلا بتصريح من المخابرات العسكرية، وبذلك أصبحت هذه المنطقة وكأنها تحت احتلال، لا يدخلها إلا علية القوم، وينتهك فيها هؤلاء سائر قوانين الطبيعة بالصيد الجائر، ثم يتهمون من يقف في وجههم – مثل عمرو علي وجمعية هيبكا – بأنهم يستقوون بالخارج !

ابنك العزيز نهر جار … تشرب منه جميع الكائنات.

كان العزيز يمطر خيراته على ما حوله … فقلت له “لم لا تمطر فوق مصر كلها يا صديقي؟”
فانضم إلى حزب سياسي تحت التأسيس ولم يجبن أو يتردد، ساهم في دعم هذا الكيان، لا فرق إن كان انضمامه رسميا أو شرفيا، فالسحب تمطر في الشتاء وقد تمطر في الخريف أو الربيع أو حتى في الصيف !!!

قد لا يعلم عنه كثيرون ذلك … لأن السحابة حين تمطر لا تنشر إعلانا في الجريدة، ولا تطلب منصبا في وزارة المياه … ولذلك لم يتول عمرو علي أي منصب في الحزب الذي دعمه حتى أصبح حقيقة على الأرض.

لم يتوقف، ولم يتراجع بعد أن تعرض لمضايقات ضباع الأجهزة الأمنية، لم يتردد في إكمال الطريق، حتى قامت ثورة يناير العظيمة.

ساهم فيها قبل قيامها … وبعد أن قامت … إنه ثائر يعمل بهدوء ودون ضجيج.

لقائي الأخير معه … وليتني عرفت أنه اللقاء الأخيرألو … ما بتسألش عليَّ يا عبرحمن ! إنت اللي قاعد في البحر الاحمر وسايبنا في الايام السودة اللي احنا فيها دي طب انا هنا … أشوفك امتى؟ حالا !

جلسنا في مقهى في مصر الجديدة (مجرد الجلوس معي في هذه الفترة كانت شجاعة يا أُمَّنا) … تحدثنا في السياسة، وعن عواقب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، وكيف أضاع من كان في القصر فرصة عظيمة، وحكى لي من القصص ما يدمي القلب.

تذكرنا معا أصدقاء قتلتهم رصاصات العسكر، وآخرين في السجون، وغيرهم ممن ترك البلاد، وبعض من باعوا أنفسهم للسلطة.

حدثته عن مشروعي الجديد (ديوان القهوة)، كتابي الذي بدأت التدوين فيه منذ عشر سنوات تقريبا، وكيف ينقصني لإكماله عدة أسفار من أهمها سفرة للمثلث، مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد، لكي أكتب عن قهوة (الجَبَنَة) التي يشربها أهلنا من قبائل العبابدة والبشارية في المثلث.

اتفقنا على السفر معا للمثلث بعد أن تنقشع هذه الغمة … فالسفر للمثلث يقتضي الحصول على تصريح من المخابرات العسكرية، وهيهات أن يغامر أحد بذلك في هذه الأيام.

وكما التقينا فجأة … انتهى لقاؤنا فجأة … حين وصلته لمنزله في القاهرة في شارع الثورة بمصر الجديدة قال لي : (لما الثورة تنجح لازم نغير اسم الشارع ده … لازم نسميه شارع الثورة اللي بجد) !

هل اكتفيت يا أمنا الغالية؟

أما أنا … فإني أطلب من العزيز الغالي أن يسامحني … لسببين، الأول : لأنني لم أحضر دفنه، ولا جنازته ولا عزاءه … وما زالت في قلبي غصة من ذلك، غصة أظنها ستصحبني إلى قبري … وآمل أن تهدأ قليلا حين أقف أمام شاهد قبره وأقرأ الفاتحة في يوم قريب.

أما السبب الثاني : فلأنني ذهبت إلى المثلث دونه … ويشهد الله أنني كنت مضطرا !

يا أخي الراحل العزيز … أرهقتني بفراقك يا صديقي … وفي داخلي حزن يتجدد كلما تذكرت حرماني من لقياك قبل الرحيل، وحرماني من وداعك عند الرحيل، ومنعي من العزاء بعد الرحيل.

وكما كان عمرو علي يتسرب داخل أحداث الحياة فجأة … وكما رحل فجأة … انتهى هذا النص … فجأة !

المقال السابق
Video featured image

عبد الرحمن يوسف وحوار بشأن حكم الحبس الصادر ضده - قناة الجزيرة مباشر نوفمبر 2016

المقال التالي

مرض الهزيمة

منشورات ذات صلة
Total
0
Share