القضاء وجميع مؤسسات الدولة

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 15-12-2019 م

في يوم الإثنين الماضي الموافق التاسع من ديسمبر 2019م قررت نيابة أمن الدولة العليا في مصر الإفراج عن الناشط السياسي المعروف ونائب رئيس حزب مصر القوية الأستاذ “محمد القصّاص”، وذلك بعد احتجاز دام أكثر من 22 شهرا في سجن انفرادي شديد القسوة، مع منع الزيارة في أغلب الأحيان.

“القصّاص” تم القبض عليه في فبراير 2018، بعد أن صرح برأيه السياسي بضرورة مقاطعة الانتخابات الرئاسية، فوجهت له التهم المكررة المتعلقة بنشر الشائعات، ودعم الجماعات.

وبعد أن صدر قرار النيابة بالإفراج عنه بيومين، استدعي “القصّاص” إلى نيابة أمن الدولة لتوجه له تلك النيابة تهما جديدة، ويتم احتجازه على ذمة قضية جديدة إلى ما شاء الله.

الاتهامات التي وجهت للسيد “القصّاص” مضحكة، فهو متهم بعقد اجتماعات داخل سجنه، أي في الفترة التي كان محبوسا فيها انفراديا بيد الدولة !

حدث ذلك مع عشرات المتهمين السياسيين، أشهرهم السيدة علا القرضاوي، حيث صدر قرار نيابة أمن الدولة بالإفراج عنها في الثالث من يوليو 2019م، وتم استدعاؤها في اليوم التالي مباشرة، ووجهت لها تهم جديدة، فهي قد استغلت علاقاتها داخل السجن لتمويل الإرهاب، تلك السيدة التي لا تملك حق الذهاب إلى دورة المياه.. توجه لها تهم تمويل الإرهاب وهي في حبس انفرادي منذ مئات الأيام !

*       *       *

لماذا يتعمد النظام توجيه هذه التهم المضحكة بهذا الشكل الفج؟

أقول (يتعمد).. لأن ما يحدث نهج متكرر، لا يمكن أن يكون صدفة، أو اجتهادا شخصيا لضابط، أو ووكيل نيابة، بل هو سياسة مقصودة، لها أهدافها، سياسة تكررت، وتتكرر.. بشكل لا يمكن أن يكون مجرد صدفة.

إن الهدف الأول من ذلك هو توريط القضاء وإغراقه تماما في معركة السياسة، وتلويث يدي المؤسسة بالدماء المعصومة، وبالمال الحرام، لكي لا يتجرأ أحد في هذه المؤسسة على رفع رأسه أو صوته مطالبا بأي شكل من أشكال استقلال القضاء إلى الأبد.

سيظل كل من يعمل في هذه المؤسسة يرفع صوته مطالبا بمكافآت.. أو بالحماية من الشعب.. ذلك الشعب الذي أصبح في ثأر مباشر مع النيابة العامة، ومع المحاكم بشتى تخصصاتها، تمام مثلما هو في ثأر مع وزارة الداخلية وغيرها من مؤسسات القوة.

*       *       *

لقد تعمّد “سيسي” أن يورّط مؤسسات الدولة في جرائم الخيانة العظمى، وجرائم الدماء والأموال، ووقفته الشهيرة حين ثار الناس ضد بيع جزيرتي “تيران” و”صنافير” لا يمكن أن ننساها، لقد ورّط جميع المؤسسات في صفقة الخيانة تلك على الهواء مباشرة، وقال بلسانه مختالا متسائلا (ألا يوجد وطني واحد في الجيش أو المخابرات أو الخارجية يقول إن الجزر مصرية؟ لقد ساندوني جميعا، وحين سألت هذه المؤسسات عن الجزيرتين قالوا جميعا إنها ملك للمملكة السعودية) !

قال ذلك بحضور ممثلين من القيادات العليا لجميع تلك المؤسسات.. ولم ينبس أحدهم ببنت شفة !

وهذا هو الهدف.. أن تصبح جميع مؤسسات الدولة متورطة في الجرائم التي تحدث، فتصطف جميعها خلف هذا العميل لا لتدافع عن عمالته.. بل لتدافع عن نفسها، لأن هذه المؤسسات أصبحت ترى نفسها في مركب واحد معه، وأن خط الرجعة متعذر، وأن ما ارتكبته خيانة عظمى لا تقبل الغفران.

*       *       *

إن الخلاص من “سيسي” حاليا يحمل في طياته ضرورة إعادة بناء هذه المؤسسات على أسس وطنية تضمن أن لا يتحكم فيها أي قزم يصل إلى رأس السلطة.

وهذا أمر لن يتم إلا بعملية تطهير واسعة النطاق، وبضخ دماء جديدة في هذه المؤسسات، وبضمان إنهاء الاحتكار الذي خلقته هذه المؤسسات للمنضمين لها لكي تحصن نفسها، فغالبية مؤسسات القوة والنفوذ لا يدخلها أي إنسان وطني، بل هي مغلقة تماما على عائلات بعينها، تتوارث المناصب، وإذا دخلها أي شخص بأي طريقة، فلن يجد أي سبيل للترقي في السلم الوظيفي، والاستثناءات تكاد تكون معدومة، وكلما زادت أهمية المؤسسة، كلما زادت استحالة الاستثناءات، وهذا هو السبب الذي يجعلنا متأكدين من أن الغالبية العظمى من قيادات القوات المسلحة المصرية لا تملك أي اعتراض حقيقي على جميع صفقات الخيانة التي تمت في عهد مبارك.. أو في عهد “سيسي”.

*       *       *

مرّت أمم غيرنا بهذه المحنة التي يمر بها الشعب المصري بل الوطن العربي، وكان النجاح في تجاوز هذه المحنة مرتبطا باتحاد المعارضة، وبالتوافق على برنامج عدالة انتقالية صارم، يعيد الحقوق للأمة أفرادا وجماعات ومؤسسات.

ذلك أن هذه المؤسسات هي من حق الأمة.. القضاء، والداخلية والخارجية، والجيش، والشرطة.. الخ هذه مؤسسات بنيت بأموال وكفاءات الأمة، ومهمتها خدمة الناس، لذلك إعادة هيكلتها هو عمل في صالح الشعب أولا، وليس في صالح الفئة التي تنتمي إلى هذه المؤسسات نفسها.

هل يمكن إصلاح هذه المؤسسات بعد كل هذه الجرائم؟

الإجابة: نعم !

ولكن لا بد من بدأ صفحة جديدة، يتولى فيها زمام الأمور رجال مخلصون للوطن، يدهم لم تتلوث بالدماء، وجيوبهم لم تعرف قرشا حراما، وهواتفهم لا تقبل أي مكالمات توصية أو واسطة.

هذه النخبة التي تستطيع أن تقوم بذلك موجودة، وسوف تقوم بهذه المهمة المقدسة قريبا إن شاء الله.. بعز عزيز أو بذل ذليل..

عبدالرحمن يوسف

رابط المقال على موقع عربي 21

المقال السابق

مـفـارقــات

المقال التالي

مؤتمر "كوالالمبور" هل ينجح؟

منشورات ذات صلة
Total
0
Share