التوافق ممكن

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 21-4-2019 م

يتفق غالبية المصريين على أنهم يعيشون في أسوأ العهود، ولكنهم يختلفون في كيفية الخلاص من هذا الكابوس، يتفقون على تشخيص المرض، ولا يتفقون على كيفية العلاج.

يرى البعض أن العلاج يكون ببتر العضو المريض، وليحدث ما يحدث !

ويرى الآخرون أن الحل في علاج العضو المريض، وأنه لا أحد يمكنه – حاليا – أن يقوم بعملية البتر، وأن يرعى المريض في فترة نقاهته بعد هذه العملية الجراحية الكبيرة، فإذا أجريت هذه العملية دون عناية مشددة في فترة النقاهة سيموت المريض حتما.

الغريب في الأمر … أن كلا الطرفين لا عمل له سوى مهاجمة الطرف الآخر، وغالبية المشاركين حاليا لا علاقة لهم بالمريض، فلا الذي يرى الحل في البتر يجهز المريض لتلك العملية الجراحية الكبرى، ولا الذي يرى الحل في علاج العضو المريض يعطي هذا المريض الأدوية المطلوبة …!

لا عمل لهؤلاء سوى تسفيه آراء أولئك، والعكس بالعكس !

*       *       *

قضية التعديات الدستورية التي ينظمها “سيسي” جمعت المصريين على رفضها، وانقسم الرافضون في كيفية التعامل مع الاستفتاء إلى فريقين، الأول يرى الحل في مقاطعة الاستفتاء، والثاني يرى أنه لا بد من الاشتباك بشكل ما، إما بالتصويت بلا، أو على الأقل بالمقاطعة الإيجابية (وكانت هناك اقتراحات عديدة).

الغريب أن جلّ الجهد بذل في تخوين كل فريق للآخر، وتسفيه كل مجموعة لرأي المجموعة الأخرى، ولم يخل الأمر من تخوين وتجريح شخصي، مع أن في الأمر سعة، فلا هذا ولا ذاك يملك الحقيقة المطلقة، ولا هذا الرأي أو الآخر فيه أي دليل على نية سيئة لمن يطرحه.

*       *       *

استطاعت مجموعة عمل من الشباب الوطنيين أن تطلق حملة (باطل)، وأطلقوا موقعا للتصويت على رفض هذه التعديات الدستورية، وتفاعل المصريون مع الحملة تفاعلا عظيما، وجمعت الحملة في وقت قياسي ما يقرب من ستمائة ألف توقيع (حتى كتابة هذه المقالة).

هذه الحملة يقوم عليها مجموعة لا يجمعهم رأي محدد في كيفية التعامل مع هذه التعديات الدستورية، فبعضهم يرى التصرف السليم هو المقاطعة التامة، وبعضهم يرى الحل في المشاركة والتصويت بلا.

تمكنت هذه المجموعة من التقاط الحد الأدنى من المشترك الوطني، وهو بطلانها، ورفضها رفضا تاما، وهذا أقل ما يمكن التوافق عليه.

الغريب أن بعض الذين يحسبون أنفسهم من الثوار المقاومين للنظام المصري لم يعجبهم الأمر، وتفننوا في التقاط ما يفرق الصفوف، فوجدناهم لا هم لهم سوى النهش في حملة باطل آناء الليل وأطراف النهار، وتحفظاتهم أقل ما يقال عنها أنها عجب عجاب.

فترى سوء الظن في أسوأ صوره … يقول أحدهم (إذا قلت “لا” للتعديلات الدستورية، فمعنى ذلك أنك تعترف بالدستور العسكري وبالانقلاب وما ترتب عليه، ولكنك تعترض على التعديلات فقط) !

وهو أمر لم يخطر ببال أحد من القائمين على الحملة أصلا !

هذا الدستور عبارة عن “بلطجي”، وهو “ابن حرام”، وقد ارتكب جرائم كثيرة، كان آخرها أنه استولى على أرض قبيلتي عنوة بقوة السلاح، وليس معنى رفضي لآخر جرائمه (أعني استيلاءه على أرض القبيلة)، ليس معنى ذلك أبدا أنني أعترف بنسب هذا البلطجي مجهول النسب، وليس معنى ذلك أنني أعترف بكل جرائمة التي سبقت هذه الجريمة !

*       *       *

لقد دخلت الجماعة الوطنية في جدل عقيم، واجتهد كل فريق في قمع الرأي الآخر، والحقيقة أن لكلا الرأيين وجاهته، فالمقاطعون لا يمكن تسفيه رأيهم، وللمقاطعة تأثير بالغ، ولكننا نطمح في أثر أكبر، فالنظام يتمدد، ويتوغل، والمقاطعة أصبحت لا تضيف جديدا، لقد كانت مفيدة في فضحه في بداية المرحلة، والآن أصبحت ذات تأثير محدود (في رأي كثيرين).

ولا يمكن كذلك تسفيه الرأي الداعي للمشاركة، فالعائد التراكمي من المشاركة هو ما سيؤدي إلى نتيجة، والجلوس في مقاعد المتفرجين حجة العاجزين، والمقاطعة في عصر مبارك كانت تحدث في الوقت الذي كنا فيه نعمل ضد النظام في ألف موقع آخر، الآن … لا مجال لأي عمل سياسي، وتكاد تكون هذه هي الفرصة الوحيدة لغرس أظافرنا في لحم النظام، ولن تلوح فرصة أخرى إلا بعد عدة سنوات (وكل ذلك يرى الفريق الآخر أنه مجرد افتراضات) !

*       *       *

إن التوافق ممكن … لقد استطاع العاملون في حملة (باطل) من إطلاق الحملة، وفي نهاية العمل ذهب هؤلاء ووضعوا أصواتهم في الصناديق وقالوا (لا)، بينما قاطع الآخرون، ولم يخسر هذا ولا هذا … وربح الوطن !

إن تحويل كل خلاف في الرأي بين الأشقاء إلى معركة بين الحق والباطل عمل لا يقوم به أصحاب النوايا السليمة، خلاف الآراء حتمي، وكثير ممن يسب ويطعن يوهم نفسه بأنه يدافع عن الحق … والحقيقة أنه يدافع عن كبريائه وغروره، أو عن جهله المطبق بحقيقة أن الحياة تحتمل مثل هذه الاختلافات.

إن المعركة الحقيقية بيننا وبين من سلب بلادنا منا، وحملها فوق ظهره ككنز مسروق وألقاها في حجر رئيس العصابة ليقبض ثمنها، ونحن اليوم بدلا من مقاومة هذا اللص، نتنازع في سفاسف الأمور، وننشغل عنه بأمور صغيرة … تافهة.

سيظل السارق أقوى، ما دمنا ضعفاء بتفرقنا … وسنظل متفرقين ما دام كل منا يظن أن رأيه حق، ورأي الآخرين باطل …!

إن الفرصة اليوم كبيرة للانتصار، بل إن فرصة الانتصار اليوم تلوح بشكل لم يسبق له مثيل، ومن الممكن أن يحدث انتصار إقليمي يغير موازين القوى في الإقليم كله.

إن الصمود الرائع لثوار ليبيا في وجه الأجير المرتزق حفتر، وانتفاض السودان والجزائر، يمكن أن يتحول – لو تحركت مصر – إلى موجة ثورية تهزم معكسر الثورة المضادة في هذه الجولة، قبل أن تصل إلى الجولة التي تنتصر فيها نصرا نهائيا.

هل هناك من يعي هذه التغيرات الإقليمية؟

للأسف الشديد … يبدو أن معسكر الثورة المضادة هو الذي يولي هذه التغيرات انتباهه ..!

إلى كل عاقل نقول … التوافق ممكن … ولكن أنفسنا تأبى أن تعترف وأن تتواضع من أجل غاية أكبر … هي الوطن.

عبدالرحمن يوسف

رابط المقال على موقع عربي21

المقال السابق

أَفَشِلَ الربيعُ حقًا؟

المقال التالي

بعد تزوير الاستفتاء

منشورات ذات صلة
Total
0
Share