أوهام المصالحة وطموحات الحسم الثوري

المقال منشور بموقع عربي 21 بتاريخ 21–3-2015 م

يتعالى صراخ \”الدولجية\” بضرورة المصالحة لحلحلة الوضع السياسي المشتعل في مصر، منذ الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013، والمصالحة في نظرهم تعني باختصار \”الخضوع التام لسلطة العسكر، والرضا بضياع الحقوق والدماء والأعراض والأموال ومستقبل الطلبة والطالبات، والقبول بأي فتات يلقيه نظام لم تر مصر له مثيلا في الانتهاكات عبر تاريخها كله\”!

(للأسف … يروج لمثل هذا الحل بعض المحسوبين زورا على ثورة يناير).

على الطرف الآخر ينتظر البعض حلًا ثوريًا خالصًا، يطيح بالدولة العميقة، يهزمها بالضربة القاضية، ويعيد الدولة المصرية إلى الشعب، بعد أن خطفت لعشرات السنين من مجموعات مصالح لا علاقة لها بهموم الناس، وهؤلاء ينتظرون حدوث ذلك النصر الثوري الحاسم، دون النظر بعمق لإمكانيات تحقق ذلك فعليا على الأرض في وقت قريب أو متوسط أو حتى على المدى البعيد.

الوضع الداخلي المنهار (اقتصاديا وأمنيا) يجبر الدولة على الضغط على المستمرين في المقاومة لكي يقبلوا بما يسمى بالمصالحة، الضرب تحت الحزام وخارج إطار القانون وبلا أي شفقة كلها سمات أساسية في التعامل الأمني اليوم، ولذلك نرى مزيدا من القمع، وتصفيات جسدية، وسنرى أحكام إعدام تنفذ قريبا، وهناك طرق ضغط مختلفة، مثل تكدير حياة آلاف المساجين والمعتقلين السياسيين، ومصادرة الأموال، وتلفيق القضايا، والإحالة للقضاء العسكري …الخ، كل ذلك من أجل الوصول إلى مصالحة ينتصر بها الانقلاب نصرا ساحقا.

الحقيقة المؤلمة التي لا يعلمها هؤلاء \”الدولجية\” الذين يروجون لما سموه المصالحة أن النظام هو المأزوم، وهو الذي يحتاج إلى هذا الحل، وأن \”سيسي\” في ورطة كبرى لا يدرك أبعادها كثير منهم، أي أن الطرف الأضعف في هذه اللحظة هو النظام وليس الثورة.

النظام و\”سيسي\” يحتاجان إلى تلك المصالحة لعدة أسباب:

السبب الأول: لاستئناف المساعدات الاقتصادية بعد أن تغيرت شروط المانحين.

سيقول \”الدولجية\” إن المؤتمر الاقتصادي سيغرق البلاد والعباد في خيراته، والحقيقة أن ذلك وَهْمٌ، وسيتبدد خلال عدة أسابيع، وسينطلق – للأسف الشديد – سعر الدولار، وستستمر موجة الغلاء الطاحنة، لكي يهبط الجميع من سماء الأحلام الوردية إلى أرض الواقع المتعسكر بالسواد.

هذا النظام يحتاج للمصالحة شرطا من شروط المِنَح الدولية التي ستصل، فحالة عدم الاستقرار قد طالت، والمانحون يريدون أن يستثمروا أموالهم في دولة مستقرة.

السبب الثاني: إن الوضع الدولي الضاغط على النظام يحتاج منه أن يحسن من سلوكه المتعلق بحقوق الإنسان، لذلك من مصلحة أهل الحكم أن يصلوا إلى مصالحتهم المزعومة في وقت قصير، خاصة بعد أن تغيَّرَتْ التحالفات الدولية والإقليمية وأصبحت بضاعة الانقلاب (هراء محاربة الإرهاب) بضاعة بائرة.
 
ثالثا: \”سيسي\” يحتاج إلى تعديل دستوري عاجل، يعيد الدولة إلى أحضان الرئيس، ويعيد الرئيس إلهًا تسجد له الدولة وسائر مؤسساتها.

وشرح ذلك باختصار أن لجنة الخمسين تركت النظام السياسي للدولة المصرية كما كتبته لجنة دستور 2012، وبالتالي ظلت صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة، وظلَّ رئيس الجمهورية يحكم الدولة عن طريق رئيس الوزراء، فأعطى الدستور البرلمان الحق في تشكيل الحكومة بشكل غير مباشر، وظلَّ البرلمان من سلطاته محاسبة، بل محاكمة رئيس الجمهورية عن أي خطأ يراه.

هذا البرلمان (نظريا ودستوريا) من حقه أن يوقف الرئيس عن العمل، وأن يحقق معه، وأن يوجه له تهمة الخيانة العظمى، وأن يعزله، وليس للرئيس حق إقالة الحكومة دون موافقة هذا البرلمان!

(راجع دستور ما يسمى بلجنة الخمسين، مواد رقم 146، 147، 159، 161، 150، 170، 171 وغيرها).

إن السبب الحقيقي لتأجيل الانتخابات البرلمانية هو صلاحيات البرلمان وصلاحيات رئيس الوزراء الدستورية، وليس أي شيء آخر.

\”سيسي\”… يحتاج إلى مصالحة سياسية لكي يمرر هذه التعديلات الدستورية (في الزحمة)، ووجوده على رأس السلطة بهذا الدستور سيحوله في لحظة واحدة إلى ربع رئيس، لأن ثلاثة أرباع صلاحياته الحالية سوف تسلب منه بنص الدستور!

أما على الجانب الآخر… فالبعض يأمل أن يتغير الوضع الحالي بثورة شعبية كاملة مكتملة، ويرون أن أي نصر دون ذلك لن يكون مقبولا.

والحقيقة أن انتصار ثورة شعبية بالضربة القاضية أمر بالغ الصعوبة، ويحتاج إلى وقت طويل، وغالبية شروط تحقق هذه الثورة غير متوفر حاليا.

إن الحل الواقعي للأزمة السياسية في مصر لن يكون بمصالحة تفرضها جنازير الدبابات، بل بحل سياسي عادل، ولن يحدث ذلك إلا بقوة شعبية في الشارع تساند وتفرض هذا الحل السياسي.

إنه حل (ثوري – سياسي) يضمن تحقق العدالة والقصاص، ويضمن تغييرا هيكليا حقيقيا في مؤسسات الدولة (أمنا وقضاء وإعلاما ومؤسسات رقابية وغيرها)، ويضمن فتح ملف العلاقات المدنية العسكرية بما يحقق مصلحة مصر.

أما محاولة فرض الحلول بقوة السلاح، أو إخضاع الخصوم بتجويع المساجين، أو ترويع المعارضين بتصفيات جسدية وغير ذلك… فلن ينتج عن ذلك سوى استمرار النزيف الذي يضعف الوطن والدولة، ولا يبني سوى الأحقاد، ويهدم المؤسسات والسلم الاجتماعي.

إذا فرضت أي مصالحة مزعومة، فتأكدوا أن مصر ستظل دولة للأسياد والعبيد، وسيبقى الاستبداد مزروعا في جينات النظام.

يظن البعض أن التيار الثوري بعد عشرين شهرا من الصمود قد أُنْهِك، أو أنه في حالة ضعف، والحقيقة أن النظام الانقلابي هو الذي يمر بأضعف حالاته، وهو مهيأ للتخلص من كثير من حمولات سفينته الغارقة لكي تستمر في الطفو… وتذكروا ما حدث مع مبارك.

وأقول لبعض الذين قد يراهنون على إجبار بعض القيادات التي قد تحسب على التيار الإسلامي على التوقيع على بعض عقود الإذعان لإنهاء الحراك في الشارع، إن الشارع يحركه الشباب، وقدرة أي قيادة على تحريك أو إيقاف هذا الحراك محدودة أو معدومة.

الحراك الثوري أكبر من أي جماعة، واستمراره أو توقفه رهن برد المظالم، وبتحقق العدل، وكل من يتنازل عن ذلك سينبذ إلى الأبد.

يبقى سؤال أخير: هل يمكن أن تصل الدولة إلى اتفاقية إذعان تهدئ الشارع؟
والإجابة: نظريا ممكن… ولكن عمليا مستحيل.

وإذا افترضنا أن ذلك حدث، فسيكون وضعا مؤقتا، قد يستمر عدة شهور، ولكن في النهاية ستنفجر الأزمة أكبر من ذي قبل، وسنعود إلى ما قبل نقطة الصفر.

الخلاصة: الثورة اليوم أقوى من النظام، وتحتاج إلى ترشيد حراك الشارع، وتحتاج قيادة حقيقية تستطيع أن تقود وأن تفاوض بوعي يؤدي إلى تحقيق العدل الذي ينقذ مصر من مستقبل لا نتمناه.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين…

رابط المقال على موقع عربي 21 

المقال السابق

مصر تستيقظ حين تسقط الأوهام

المقال التالي

رسالة إلى رئيس وزراء إثيوبيا

منشورات ذات صلة
Total
0
Share