لقاء مع شبكة فلسطين أون لاين يناير 2013 م

ما سبق ملخص لبعض ما قاله الشاعر المصري “عبد الرحمن يوسف” في حواره مع “فلسطين” في أثناء زيارته لغزة في نوفمبر الماضي.

الشاعر المجهول

بداية حوارنا مع ضيفنا لم تكن عنه، بل كانت عن “عامر شديد”، هذا الشاعر الذي جهر بكلمة “لا” في وجه نظام مبارك من خلال ديوان “تراتيل قبل وبعد الذبح”، الذي طبع منه مئات النسخ وأرسلها إلى كل المسؤولين في الدولة، بدءًا من رئيس الجمهورية المخلوع حسني مبارك ومرورًا بكل الوزراء وأعضاء مجلس الشعب وكبار الكتاب والصحفيين من المؤيدين والمعارضين، والغريب أن معظم النسخ أُرسلت عبر القنوات الرسمية وبالبريد الرسمي، لكن لا أحد وصل إليه وكشف شخصيته، وهو ما أثبت له هشاشة الأجهزة الأمنية التي يقول عنها: “إنها لم تكن ترى أن للكلمة قيمة”.

لم يكن “عامر شديد” إلا اسمًا استخدمه ضيفنا ليصدر ديوانًا سياسيًّا ذا أشعار قاسية في النقد، وفق وصفه، والسبب بكل صراحة هو: “الخوف”.

“عامر شديد، ذلك الشاعر الذي تعرفه جيدًا بالتأكيد؛ لماذا اخترت أن تكون البداية من عنده؟”، يقول: “إن الخوف حال بيني وبين نشر الديوان باسمي، لكن كان لابد للرسالة أن تصل حتى مع الخوف”، مضيفًا: “أهم ما في هذه التجربة (تراتيل قبل وبعد الذبح) أنني انتصرت على خوفي، وأصبحت مستعدًا إلى إشهار آرائي باسمي، وفعلت ذلك بعدها بمدة قليلة في ديوان “في صحة الوطن”، وهو ديوان سياسي لاذع في ذلك الوقت لفت الأنظار وتسبب في ضجة كبيرة بمصر والوطن العربي، ومازالت قصائده تردد في كل الدول العربية، ومازال ممنوعًا حتى الآن في بعض الدول العربية”.

بقي الديوان الأول مرتبطًا بالاسم الذي نُشر معه، وحتى الآن لا تزال بعض قصائد “عامر شديد” موجودة على (الإنترنت) ضمن هذا الديوان، إذ لم يُعرف كاتبه الحقيقي إلا بعد الثورة حين كشف عن نفسه، وهو الآن يفكر في نشره من جديد باسمه.

التجربة الأولى كانت “قاسية جدًّا”، لكنها أنتجت شاعرًا لم يعد يخاف شيئًا، ومهيًا من الناحية النفسية لخوض هذا الطريق أيًّا كانت عقباته، فقد زال الخوف وبدت هشاشة الأجهزة الأمنية واضحة للشاعر، فلم يكن الإفصاح عن اسمه أمرًا صعبًا، ويقول: “بعد نشر “تراتيل قبل وبعد الذبح” أصبح القرار سهلًا، وبدأت أجهز لانطلاقة حقيقية، حتى صدر “في صحة الوطن”، وأصبح لي موقع على (الإنترنت)، ومكتب أستقبل فيه الناس، وبدأت أجهز دار نشر، أي أنه قد أصبح لي مشروع كامل منذ أن نشرت ديوان “عامر شديد”، ففي هذه السنة رتبت أموري وقررت أني سأسير في هذا الطريق، وأني سأبدأ في إشهار كلمة “لا” ونشرها بين المصريين”.

بعد القضاء على الخوف

وفي اليوم الأول من يونيو 2004م انتهى دور “عامر شديد”، عندما أصدر يوسف ديوان “في صحة الوطن”، وموضوعه السياسة كذلك، لكنه هذه المرة يحمل اسمه صراحة، “فما الذي تغير في هذه المدة القصيرة؟”، يجيب: “أول شيء تغير هو أنا، أصبحت لا أخاف الأجهزة الأمنية، واكتشفت كم هي هشة هذه الأجهزة، وأنهم متواضعون في ذكائهم وتعاملهم مع الأمور”.

الكتابة من هذا النوع لها تبعاتها السلبية على صاحبها بالتأكيد، ومع يوسف تمثلت في التضييق عليه بكل الطرق، التي يبينها بقوله: “الأجهزة الأمنية في النظام السابق كانت تملك رصيدًا كبيرًا من الخبرة في التعامل مع الحالات التي تشبه حالتي، وخلاصة هذه التجارب التضييق في الرزق والعمل والظهور الإعلامي، وعدم المساس الشخصي به في قضية فكر؛ لأن ذلك يؤدي إلى شهرة، فإذا أوذي يصبح بطلًا، وإذا قتل يصبح شهيدًا، لذا المطلوب أن يضيق الخناق عليه حتى يجن أو يبيع القضية أو يهاجر”.

ويضيف: “وهذا الأسلوب هو الذي اتبع معي شخصيًّا، كان مضيقًا علي بكل السبل، لكن ذلك ثمن بسيط جدًّا مقارنة بالذين فقدوا حياتهم أو عيونهم في الثورة، وهو ثمن زهيد جدًّا مقابل أن يقول الإنسان (لا)”.

وخلف هذا الإصرار قرار اتخذه يوسف ويراه الأهم في حياته، وهو الجهر بكلمة “لا”، قرار يتكون من حرفين فقط، لكنه غيّر حياته كلها، ولم يتمكن بسببه من العمل والكتابة في الصحف سنوات، إضافة إلى التضييق عليه في الرزق وفي الأمور الحياتية، واليوم هو مؤمن تمامًا بصواب هذا القرار، لذا يقول: “حتى لو لم تقم الثورة فأنا مقتنع تمامًا بأنني فعلت الصواب، وأن ما فعلته كان سيؤتي ثماره في يوم من الأيام، ولو بعد موتي (…)، ولكنني كنت موقنًا بأن هذا ليس مجرد دخان، بل هو بذرة تزرع في أرض خصبة ستخرج من تحت الأرض وتصبح شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء”.

وفي حياة يوسف ثمة مواقف “فاصلة” _كما يصفها_ كان لها دور في توجهاته وإصراره على قول “لا”، وأهمها سقوط بغداد عام 2003م، إذ أصبح يرى أنه لابد من المقاومة، وأن ما يُؤخذ من العراق بالحرب يُؤخذ من مصر برئيس مثل مبارك، وباتت عائلة مبارك بحد ذاتها عقبة وبؤرة تآمر على الأمة ومصالحها؛ لمجرد بقائها في الحكم، كما يقول.

ويضيف: “من المواقف الفاصلة أيضًا تأسيس حركة “كفاية”، فأنا نشرت ديوان “في صحة الوطن”، وبعدها بستة أشهر أُسست الحركة، وكأن كل المحترمين أو كل الشرفاء كانوا يتنادون من أجل أن يجمعوا أنفسهم”.

الأسوأ دائمًا

يؤمن يوسف أن الخوف جزء من الإنسان، وأنه من غير الطبيعي ألا يشعر به، لذا كان يفترض الأسوأ دائمًا، ولم يبدأ النشر باسمه إلا بعد أن قرر أنه على استعداد لأن يفقد حياته في سبيل قول “لا”.

“إذن، ألم يحدث أن نازعتك نفسك يومًا بالرجوع عن هذا الطريق؟”، الإجابة على لسانه: “يحدث ذلك، ولكن لا يمكن، هذه الهواجس تأتي لكل إنسان في لحظات اليأس ولحظات الضيق، دائمًا تأتي للإنسان هذه الفكرة: “ما الذي جعلني أسير في هذا الطريق أصلًا؟”، أما الإنسان المؤمن بأفكاره حين يسأل نفسه هذا السؤال _إن كان مؤمنًا حقًّا_ يجد عشرات الأجوبة المقنعة”.

ويرى يوسف أن الشعراء والأدباء لابد أن يكونوا ناطقين باسم الناس، يخالطونهم ولا يتكبرون عليهم، عادًّا ذلك من بين ركائز النجاح التي منها أيضًا أن يكتشف الإنسان نفسه ويعرف إمكاناته ومواهبه الحقيقية، دون تقليد الآخرين؛ فيكون طبعة فريدة من نفسه، وأن يجوّد هذه الطبعة بالتجريب والتدريب المستمر، مع القدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل، وفتح الخيال والتفكير خارج الصندوق، فضلًا عن أهمية المعرفة بكل روافدها كالقراءة.

خلاصة ما تعلمه يوسف من تجربته أن: “الشخص الذي لا يملك قضية وعلى استعداد إلى الموت في سبيلها دائمًا يكون شخصًا فارغًا أو شبه فارغ”.

إذا ما جربت أن “تسأل (جوجل)” عن الشاعر عبد الرحمن يوسف؛ فسيكون من بين إجاباته الكثير من العناوين المثيرة، يتركز معظمها على توضيح أسباب “الخلاف” مع والده، وتأكيد تشيّعه، وغيرها من التهم التي يؤكد أن لا أساس لصحة أيٍّ منها، باستثناء الجنسية القطرية التي كان يملكها بالفعل، لكنه تنازل عنها منذ سنوات؛ لعلمه بأنها ستتحول إلى شبهة “ازدواج الولاء”.

ويلفت إلى أن نهجه في التعامل مع التهم والشائعات يقوم على أن بعضها لا تستحق الرد، وألا يفرغ الإنسان حياته للرد عليها، مستدركًا: “ولكن ليس من الصواب أن يترك الإنسان عرضه أو أن يترك سيرته مطعونًا فيها، فلابد أن يحترم الكاتب قراءه، فمن حقوق القارئ على الشخصيات العامة توضيح هذه الأمور”، مردفًا: “وأنا وضحتها جميعًا، وليس عندي ما أخفيه باستثناء حياتي الشخصية؛ فهي ملك لي”.

مع القرضاوي الأب

ومن بين ما يجيب عنه أيضًا التساؤل الذي يقفز إلى ذهن كل من يعرف أنه ابن الدكتور يوسف القرضاوي، وهو عن سبب عدم إضافة اسمه إليه، وقصره على “عبد الرحمن يوسف”، ويقول: “المسألة ليست أنني لا أنسب نفسي، وإنما أنا أشرُف بأني ابن الشيخ القرضاوي، ولكني لا أقدم نفسي للناس في الإعلام أنني مجرد استمرار للشيخ القرضاوي، فأنا صاحب رؤى معينة في اتجاه معين، أتحمل مسؤوليتها وحدي، فيها ما يوافق الشيخ وفيها ما يختلف معه”.

ويؤكد أنه يختلف عن والده، ولا يختلف معه، وأنه ليس نسخة عن أبيه، ويرى أنه من الطبيعي أن توجد اختلافات بين الأجيال في الرؤى وفي كيفية التعامل مع الواقع، وأنه من الضار أن تتناسخ الأجيال فكريًّا فتصبح كلها نسخة واحدة، مؤكدًا أنه لا يتحدث عن الثوابت التي يجب أن يزرعها الجميع في أبنائه، “فالحياة ليست كلها ثوابت”، وفق رأيه.

القرضاوي الأب والابن سعيدان بأن الشاعر الابن “مطلعش على كتاف أبوه”، أما الأب فلا يزعجه مطلقًا أمر اسم ابنه إن كان ثنائيًّا أو ثلاثيًّا _كما يوضح ضيفنا_ الذي يقول: “من يرِد أن يقول (عبد الرحمن يوسف القرضاوي) فليقُل، ولكن الاسم الذي أنشر به وأُقدَّم به في موقعي واخترته إعلاميًّا هو اسمي (عبد الرحمن يوسف)، وليس فيه أي تدليس”، ولما سألناه: “هل والدك فخور بك؟”؛ ابتسم واكتفى بالقول: “أظن ذلك”.

ويواصل حديثه عن العلاقة بأبيه: “لاشك أننا نتناقش في السياسة، وأعتقد أن رؤانا في كثير من المواضيع فيها خلاف، وهو خلاف أجيال؛ نحن جيل يرى المشهد السياسي في العالم العربي بطريقة مختلفة عما كانت تراه الأجيال السابقة”.

ويتابع عن الشيخ القرضاوي: “هو مربٍّ عظيم وهو أبٌ فاضل، ومن ضمن ما علمه لي أن أكون ذاتي، وألا أكون نسخة عن أحد، وهذا من ضمن ما علمه لكل أبنائه، ولم يجبرهم على أي أمر من أمور حياتهم الكبرى، نحن عائلة كل شخص فيها يتخذ قراره وفق ما يؤمن به، وما يتيسر له من الهمة والعمل، وهذا مما يُحسب للشيخ، ومما يُحسب للبيت أنه يضم في الأسرة الواحدة عدة توجهات فكرية تحت مظلة كبيرة لا يُختلف عليها”.

ولما كان اللقاء في أثناء زيارته الأولى إلى غزة؛ كان لابد من كلمة عنها: “وجدنا غزة كما تصورناها، تقدم أنموذجًا إنسانيًّا للإنسانية كلها، أنموذجًا يعرف الحق ويقف معه، ويدفع أغلى الأثمان في سبيل الوقوف معه، وأول الحقوق هو الحق في الأرض”.

الكلمة الأخيرة في حوار يوسف مع “فلسطين” آثر أن تكون عن غزة ولها أيضًا: “كنت قد قلت إنني جبت العالم، لكني لم أتعلم كما تعلمت من غزة، هي أنموذج إنساني للإصرار على التمسك بالحق، وهذا الأنموذج لا يمكن أن يُحطم أو يفشل، والسبب في ذلك العنصر البشري، نحن أمام نوع معين من البشر، هو النوع الذي يؤمن ولا يُهزَم، فاستمروا كذلك، وعلمونا كل يوم جديدًا من ألوان الصمود”.

فلسطين أون لاين

المقال السابق

كَذَبَ الإسلاميون

المقال التالي

هل تتحد المعارضة؟

منشورات ذات صلة
Total
0
Share